أثر خطبة الجمعة

ملخص الخطبة

1- عظم الثمرة المرجوة من يوم الجمعة. 2- ثمار حضور الجمعة. 3- ضرورة الاعتناء بالمقاصد. 4- الفرق بيننا وبين الرعيل الأول. 5- الجمعة بيت كل غريب وزاد كل مسافر.


الخطبة الأولى

أما بعد: فلقد تحدثنا معكم في المرة الأخيرة عن آداب يوم الجمعة لبيان أهمية ذلك اليوم وعظمته. وبقي علينا أن نسأل أنفسنا عن سبب ذلك التعظيم والعلة من تلكم الآداب.

فاعلموا أن الثمرة المرجوة من يوم الجمعة عظيمة وعظيمة جدًا، وإن أبشع الجرائم التي ترتكب في أيامنا هذه هو قتل معاني العبادات وأسرارها وغاياتها. وهذا ما سنتكلم عنه بعد قليل.

أول ثمرة من ثمار حضور الجمعة هي ذكر الله كما قال تعالى: فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ [الجمعة:9]، ومتى ذكر العبد ربه ذكره سبحانه، فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وفي الحديث القدسي: ((أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه))، ومتى ذكر العبد ربه اطمأن قلبه، أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ [الرعد:28].

ومتى ذكر العبد ربه صار حيًّا لقوله : ((مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت))، والحي هو الذي يشعر بألم المعاصي إذا مسّته، أما الميت فلا يشعر بشيء.

من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميّت إيلام

ومتى ذكر العبد ربه أدرك تقصيره في جنبه، فاستغفر لذنبه وأناب لربه.

إذن فلا بدّ أن نعيد النظر ـ إخوتي الكرام ـ في نياتنا ومقاصدنا عند الإتيان لخطبة الجمعة، فإن كثيرًا منّا اليوم لا يستحضر هذه النيات الصالحة وهو قادم لصلاة الجمعة، بل أصبحت لديهم روتينا يقوم بأدائه كالآلة. إذا كنت تريد الانتفاع من سماع خطب الجمعة فلا بد أن تأتيها وأنت تريد إصلاح نفسك، والعمل بما تسمعه، والقيام بأوامر الله تعالى.

فإن القلوب مريضة، وحان إسعافها بالعلاج، وإن تعجب فاعجب من ابن آدم إن أصابه داء في جسده سارع إلى اتخاذ جميع الأسباب للشفاء، ولو أمر بإنفاق كل ما لديه لأجل حياة جسده لما بخل بشيء له، فكيف لا يسارع إلى إصلاح القلب الذي هو العدة ليوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، ولو علم الله منّا ذلك ولو رآنا نسارع في صلاح قلوبنا لهدانا لذلك، قال تعالى: وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

وهذا هو مفترق الطرق بيننا وبين صحابة رسول الله ، فقد كان الواحد منهم يسمع آية واحدة من كتاب الله فيتجرد من جميع ما لديه، كأبي الدحداح رضي الله عنه، فقد روى البزار أن أبا الدحداح كان يجلس مع النبي فنزل قول الله تعالى: مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، فقال: يا رسول الله، وإن الله عز وجل يريد منّا القرض؟! قال: ((نعم يا أبا الدحداح))، قال: ابسط يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني أشهدك أني أقرضت حائطي هذا ربي، وكان فيه ستمائة نخلة. وقام أبو الدحداح وذهب إلى بستانه، ووقف على باب البستان ولم يدخل، لأنه لم يعد ملكًا له، ونادى زوجته: يا أمّ الدحداح، فقالت: لبيك، فقال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، فسمع صوت امرأته من الداخل تقول: ربح البيع يا أبا الدحداح.

آية واحدة عملت هذا العمل. أتدرون لماذا؟ لأنّ جهاز الاستقبال صحيح غير معطل وهو القلب. ولا نريد من الناس اليوم أن يتجردوا من أموالهم، ولكن حان الوقت أن يتجردوا من أهوائهم وهم يسمعون اثنتين وخمسين خطبة جمعة في السنة، فمن العيب أن أبقى كما أنا ولا أتخذ قرارًا نهائيًا في الالتزام بدين الله العظيم، فالذي لا ينتفع بالآيات والأحاديث فلن ينفعه شيء. وكما قال أحدهم:

ممـات ثم قبـر ثم حشـر وتوبيـخ وأهوال عظام

ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا

ونحن إذا نهينـا أو أمرنـا كأهل الكهف أيقاظ نيام

الثمرة الثانية من صلاة الجمعة، ويظهر هذا الأثر من التسمية، فيوم الجمعة هو يوم يجتمع فيه المسلمون في صعيد واحد، الكبير والصغير، والعزيز والحقير، والغني والفقير، فتتآلف القلوب، وتتوطّد أواصر الأخوة والإيمان، ويلقى الأخ فيه أخاه فيسلم عليه، ويسأل عن حاله، فمن العيب أن أقصد الجامع الذي هو مكان الاجتماع، يوم الجمعة الذي هو زمان الاجتماع، فنجتمع في زمان واحد، وفي مكان واحد، نعبد ونسجد لإله واحد، ثم تكون القلوب متنافرة متفرقة، ما ضرّني لو نسيت كل الحقد والبغضاء الذي بيني وبين أخي؟! ما ضرّني لو صافحته وقلت له: لا بأس فلننس الذي فات، إنّما هي نزغة من نزغات الشيطان الرجيم؟!

الثمرة الثالثة: الإعلام والتعليم، فالجميع يعلم أن قوى الشر والفساد والكفر والإلحاد سيطرت في هذا الزمان على وسائل الإعلام السمعية والمرئية والمقروءة، و المسلم لا يفزع لذلك ولا ييأس ولا يقنط ما دام مجال الدعوة مفتوحًا، ألا وهو هذا المنبر الذي من خلاله نصل إلى قلوبكم إن شاء الله تعالى، نعم كما قال أحدهم:

لقد عرف المنكر واستنكر المعروف في أيامنا الصعبة

وصار أهل العلم في وَهدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة

فقلت للأبـرار أهل التُّقى والدين لما اشتدت الكربة

لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتـكم في زمن الغربة

فليس لدينا إلا هذا المنبر لنصل إليكم، فأعينونا على نشر الفضيلة ونبذ الرذيلة، فوالله إننا لنحتار أحيانًا في اختيار الموضوع المناسب، فقط بغية الوصول إلى قلوبكم، فأعينونا بالعمل والعمل في هذه الأيام، في زمن الغربة.


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيّد الأتقياء وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فإني أريد أن أبين لكم من خلال معرفة ثمرات يوم الجمعة وثمرات الصلاة أنها هي العدة في زمن الغربة، فالغريب أحوج ما يكون إلى بيت يؤويه، وهو بيت الله، يأنس فيه بالله. ثم يحتاج إلى الأهل والإخوان ليؤنسوه في وطن الغربة. وهما الغايتان اللتان ذكرناهما لصلاة الجمعة، فالبيت جمعنا والله أنيسنا، فننسى في هذه اللحظات كل هموم الدنيا وكل فساد على وجه الأرض، لذلك بدأ النبي بهذين الأمرين العظيمين عندما هاجر إلى المدينة، حيث كان المسلمون من المهاجرين والأنصار غرباء في هذه الدنيا، فجمعهم النبي عندما بنى المسجد الذي أُسِّسّ على تقوى من الله، وبعد ذلك آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان البنيان المادي والمعنوي قويًا منيعًا، حتى أقام الله لهم دولتهم فزالت بها غربتهم.

ولم نعلم قط ولم نسمع قط بجيل من الأجيال من لدن آدم عليه السلام إلى ساعتنا هذه أنه بنى دولة إلا جيل الصحابة فقط، بناها في عشر سنوات. كيف فعلوا ذلك؟ بذكر الله والأنس به في بيته، وبالأخوة المنيعة التي جمعتهم، أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ [الأنعام:90].

0 التعليقات:

إرسال تعليق