الغيبة


ملخص الخطبة

- الغيبة مظهر من مظاهر الظلم. 2- معنى الغيبة. 3- حكم الغيبة ودليله. 4- بعض مساوئ الغيبة. 5- بواعث الغيبة. 6- حرمة العلماء ووجوب حفظ غيبتهم.


الخطبة الأولى

أما بعد: فإننا نشرع من اليوم في بيان مظاهر الظلم وصوره وأنواعه، لنحاول جاهدين في اجتنابه، ونعمل مخلصين لسدّ بابه وإغلاقه.

من مظاهر الظلم التي حرّمها الله تعالى وعدّها كبيرة من كبائر الذنوب والتي عششت في قلوبنا وبيوتنا ومجالسنا وجل أحاديثنا "الغيبة"؛ أن يغتاب المسلم أخاه المسلم، وأن تغتاب المسلمة أختها المسلمة، فقد نسي كثير من الناس أن الغيبة من الكبائر التي أوعد الله صاحبها العذاب الأليم.

فأول ما يجب علينا معرفته والتذكير به هو معنى "الغيبة"، فإن جمهور الناس إذا اغتاب أحدهم أخاه فنهيته سارع قائلاً: إنني على استعداد أن أقولها أمامه وبحضوره ألا فليعلم الجميع أن هذا من وحي الشيطان الرجيم لا من وحي الرحمن الرحيم، اعلم أن مجرد ذكر عيوب المسلم في غيبته يسمّى غيبة.

روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ((ذكرك أخاك بما يكره))، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)).

إذا علمنا معنى الغيبة فيكفينا ذمّا وإثما قوله تعالى: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فقد شبه الله تعالى المغتاب بآكل الميتة، وأي ميتة؟ ميتة أخيه المسلم.

فإن كنت ـ أيها المسلم وأيتها المسلمة ـ تستقبح وتستبعد أن تأكل لحم أخيك ميتًا فيجب عليك أن تستقبح ذكره بسوء.

الغيبة محرمة تحريمًا أشد من كثير من المعاصي التي تغتاب أخاك لأجلها، فاحذر من مزالق الشيطان وخطواته.

جاء في الصحاح والسنن والمسانيد من طرق كثيرة أنه قال في خطبة حجة الوداع: ((أتدرون أي يوم هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال: ((أليس بيوم النحر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فأي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أليس بذي الحجة))، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فأي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: ((أليس بالبلدة؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، فليبلغ الشاهد الغائب)).

وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه))، وروى أحمد وأبو داود عن أبي برزة الأسلمي مرفوعًا: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)).

فالله الله في أعراض المسلمين، فإن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، حتى إذا أخذ الظالم لم يُفلته.

كفى بالغيبة أنها تجلب البغضاء والحقد والكراهية بين المسلمين.

كفى بالغيبة أثرا أنها تُقسي قلب العبد، ينادي بملء فيه: "أريد الطمأنينة" ولا يذوقها.

كفى بالغيبة عيبًا ما قاله علي بن الحسن: إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس.

أما العقوبة في الآخرة، فمبدؤها في القبر، إذ روى أبو داود عن أنس أن النبي رأى ليلة الإسراء والمعراج قومًا لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال النبي : ((من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم، وهذا عذابهم إلى يوم القيامة)).

واعلموا أن كل ما يفهم منه مقصود الذم فهو داخل في الغيبة، سواء كان بالكلام أو بغيره، كالغمز والإشارة والكتابة، فإن القلم أحد اللسانين.

وهناك نوع من أنواع الغيبة، يستر بستر الرحمة والنصيحة فيأتيك أحدهم: أرأيت فلانًا المسكين، قد ابتلاه الله بالمعصية الفلانية. فهو يظهر الرحمة ويخفي قصده، فصار بعض الناس يتفنن في الغيبة، ألا ساء ما يعملون.

ولقد استقرأ العلماء الأسباب والبواعث على هذا الذنب العظيم فرأوها أربعة أسباب:

1- تشفي الغيظ: فقد يخطئ المسلم في حق أخيه المسلم، أو تخطئ المسلمة في حق أختها المسلمة، وتخطئ المرأة في حق أصهارها، وقد تخطئ العجوز في حق زوجة ابنها، وقد يخطئ الجار في حق جاره، فيمتلئ هذا وذاك غيظًا، فيشفي غيظه بغيبة صاحبه. ولو أنهم علموا أن الإنسان مجبول على الخطأ ولا بدّ له من الغلط لصبر واحتسب الأجر عند الله، فإن لم يجب الصبر في مثل هذه الحالة فمتى يجب الصبر؟!

2- موافقة الرفقاء، فإن الصاحب والجليس إذا كان يتفكه في الطعن في الأعراض، رأى الرجل أنه لو أنكر عليه أو قطع كلامه استثقله ونفر عنه، فيساعده ويرى ذلك من حسن المعاشرة. ولو أنه علم أن السامع أحد الشاتمين وأن الله أمره بالقيام من المجلس السوء لما رضي بذلك، فإنه من أرضى الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.

ونكمل الحديث بعد حين إن شاء الله.


الخطبة الثانية

3 - ومن الأسباب الباعثة على الغيبة اللعب والهزل، فيذكر غيره بما يُضحك الناس، بل إن بعض الناس يكون كسبه من هذا، ولو علم هذا المسكين أن ضحك ساعة سيجلب له عذاب زمن طويل لما فعل.

4- السبب الرابع: الجهل، وأخصّ بهذا السبب طائفتين من الناس:

أ- رعاعُ الناس وعوامهم الذين إذا رأوا الصالحين والصالحات على خطأ ما سارعوا إلى قذفهم بألسنة شداد في أعراضهم، فهمّهم الأوحد هو الإخوة والأخوات، وكأنهم لا يعلمون أنهم كذلك إخوة وأخوات لنا، فلماذا هذا التفريق الشنيع؟ ثم لماذا هذا التشنيع الفظيع؟

متى ادّعى الملتزمون والملتزمات العصمة؟ متى ادعوا أنهم أكمل الناس؟ كل إنسان مقصر، إلا أن هؤلاء الملتزمين لهم حسنات مكفّرة للسيئات، والميزان يوم القيامة. أما أنت يا من وقعت في حبائل الشيطان، تخطئ بالليل والنهار، وتجهر بمعصية العزيز الجبار ولا تبالي، ولا ترى الجذع في عينك، ثم ترى القذاة في عين أخيك، فهذا هو غاية الجهل.

ب- الصنف الثاني: من خدعه الشيطان وراح طوال يومه وأسبوعه وشهره وعمره يتتبع عثرات العلماء والدعاة إلى الله، صفوة الله من خلقه، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، في زمن انعدمت فيه الفضيلة، وعمت فيه الرذيلة، إذا أخطأ الواحد منهم وزلت قدمه ـ ولا بد له من ذلك ـ لم يرحمه الناس، وسلّطوا عليه ألسنتهم بالتبديع والتضليل، وكأنه لا حسنة له، ونسوا ـ هداهم الله تعالى ـ أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، وهؤلاء العلماء والدعاة الفضلاء قد بلغوا القلتين لا محالة، لكنه الجهل والنفس التي تحب وتشتهي تتبع أخطاء الناس غافلة عن أخطائها وعيوبها، ولو حدثوك أن الدّم ينبت المرعى فصدق، ولو حدثوك أن بعض الناس ذهبت حزازات نفوسهم وأحقادهم لا تصدق، ولله درّ القائل:

قد ينبت الدم على مرعى الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هي

أيذهـب يـوم واحد إن أسأته بصالح أيـامي وحسـن بلائيـا

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

الله الله في العلماء، ورحم الله عبدًا عرف قدر نفسه، فوقف عند حدّه، فمثل هؤلاء الذين يطعنون في العلماء من الشباب الذين لم يصلوا سن البلوغ في العلم كمثل مادر البخيل إذا عيّر حاتم الطائي بالبخل، ومثل باقل إذا عيّر قس بن ساعدة بالسفه:

إذا عيّر الطائي بالبخل مـادر وعيّـر قسًّـا بالسفـاهة باقـل

وقال السها للشمس أنت خفية وقـال الدجى للصبح لونك مائل

وطاولت الأرض السماء سفاهة وفاخرت الشهب الحصى والجنادل

فيـا موت زر إن الحياة ذميمة ويـا نفس جودي إن لونك حائل

فحان الوقت ـ عباد الله ـ لنستيقظ من غفلتنا، ونصون ألسنتنا عن لحوم الناس جميعهم، لا سيما العلماء والدعاة، والمخطئ منهم يبين خطؤه دون التعرض لشخصه بالذم، واعلموا أن بيان الخطأ بالأدب والأخلاق الحسنة أدعى لقبول النصح

0 التعليقات:

إرسال تعليق