الصلاة مجلبة لتأييد الملائكة

ملخص الخطبة

1- بيان الصلاة التي تنهي عن الفحشاء والمنكر. 2- ثمرات تأييد الملائكة وصحبتهما للمحافظ على الصلاة. 3- تنزل الملائكة على المصلين. 4- دفاع الملائكة عن المصلين.


الخطبة الأولى

أما بعد: عباد الله، فإننا قد تحدثنا فيما سبق عن أوّل ثمرة من ثمرات الصلاة ألا وهي أنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، وتطهر المواظب عليها من كل دنس باطنًا وظاهرًا، وقلنا: إن هناك شروطًا لتحقيق هذه الثمرة، بيّناها في خطب أربع، من تلكم الشروط وأهمّها المحافظة على الصلاة في وقتها، ثم حب الصلاة وتعظيمها، ثم موافقتها لصلاة رسول الله ، ثم الخشوع في أدائها، ثم المحافظة على أدائها مع جماعة المسلمين، ثم المحافظة على صلوات التطوّع كالرواتب وصلاة الضحى وغيرها.

كل ذلك في سبيل تحقيق الثمرة العظيمة للصلاة وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

واليوم نحدّثكم إن شاء الله تعالى عن ثمرة عظيمة من ثمرات الصّلاة وهي أن الصلاة من أكبر وأعظم الأسباب التي تجلب تأييد الملائكة وحضورها معك أيها المسلم، الملائكة التي جعل الله الإيمان بها من أركان الإيمان، تلكم الخلقة الخيرة النيرة التي خلقها الله تعالى تحب الخير وأهله، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يبحثون عن أهل الخير ومجالسهم ليكونوا صحبة لهم، ومن صحبته الملائكة نال من الخير ما لا يعلمه إلا الله.

فمن ذلك الخير الذي يأتي معها:

1- التثبيت والنّصر، قال الله تعالى: إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ [الأنفال:12].

2- ومنها أنهم يدعون للمؤمنين بالخير ويستغفرون لهم عند مولاهم الحق، قال تعالى: ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْوٰجِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ وَقِهِمُ ٱلسَّيّئَـٰتِ وَمَن تَقِ ٱلسَّيّئَـٰتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ [غافر:7-9].

3- ومن ذلك الخير أنهم إذا نزلوا بأرض أنزل الله معهم الأمن والسلام، قال تعالى: تَنَزَّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ [الفجر:4، 5].

4- ومن ذلك الخير أنهم إذا دخلوا بيت المؤمن أو صحبوه حفظوه من كل سوء، قال تعالى: لَهُ مُعَقّبَـٰتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ [الرعد:11]، والمعقبات كما قال ابن عباس: (هم الملائكة جعلهم الله ليحفظوا الإنسان من أمامه ومن ورائه حتى إذا جاء قدر الله خلوا عنه)، وقال مجاهد: "ما من عبد إلا وله ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوامّ، فلا يأتي منها شيء إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه".

وذكر ابن كثير في البداية والنهاية (1/54) أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب: إن نفرًا من مراد ـ قبيلة ـ يريدون قتلك فقال عليّ: (إن مع كل رجلٍ ملكين يحفظانه ممّا لم يقدّر، فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه)، وهذا معنى قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61].

كل هذا الخير العظيم والعطاء العميم من الله الغفور الرحيم أحقّ الناس به وأحظى الناس به هم المصلون الذين يسجدون لله ويركعون، قد آثرهم الله على غيرهم من أصحاب الأعمال الصالحات.

كيف ذلك؟! تأمل ما رواه الحاكم عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: (إن للمساجد أوتادا، والمصلون هم أوتادها، لهم جلساء من الملائكة، فإن غابوا سألوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم).

إنها بشرى الله تعالى للمؤمنين، وأيّ المؤمنين؟ إنهم المصلون خاصة، الملائكة هم جلساؤهم، لمه؟ لأنهم يجلسون في بيوت الله، لأنهم يمكثون في بيوت الله يذكرونه ويركعون له ويسجدون له، والمساجد هذه في حق الرجال هي تلكم البيوت التي يجب على كل مسلم مكلف أن يقصدها لصلاة الفريضة، وفي حق المرأة يعتبر بيتها مسجدًا كذلك، فهذه البشرى إذن عمّت الرجال والنساء، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.



الخطبة الثانية

ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فاطر:1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بشّر المصلين بالأجر الكبير فنعم البشير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم يجمعنا الله العلي القدير.

أما بعد: فإننا سنزيدكم بيانًا بأنّ أحظى الناس بصحبة الملائكة وبنيل الخير العظيم الذي ينزل معهم هم المصلون، وذلكم من قوله تعالى: أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيْلِ وَقُرْءانَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، ومعنى قرآن الفجر في هذه الآية صلاة الفجر، سمّاها الله قرآنا لأن إطالة القراءة فيها مستحبة، تنزل الملائكة على المصلين في صلاة الفجر، وتشهد معهم صلاتهم وقراءتهم وركوعهم وسجودهم، بل إنّها لتحضر صلاة الفجر والعصر لتشهد لأهل الصلاة بالخير، قال : ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون)) متفق عليه.

وفي الحديث منفعة عظيمة لأهل الصلاة، ذلك لأن الله تعالى لم يسألهم إلا عن الصلاة، وجواب الملائكة لم يكن إلا عن الصلاة، أليس للعباد أعمال سوى الصلاة؟! أليس لهم من الصالحات سوى الصلاة؟! بلى، ولكن الصلاة هي رأس الأعمال، وكأنها تشفع للعبد جميع أعماله، فلا يضرّه شيء ما دام حريصًا على أداء الصلاة.

ويزيدك يقينًا بذلك حديثان:

الأول ما رواه النسائي بسند صحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)).

الثاني ما رواه الطبراني بسند حسن عن عمّار بن ياسر قال: قال رسول الله : ((إن لله تعالى ملكًا أعطاه سمع العباد ـ يسمع ما يقول العباد ـ، فليس من أحدٍ يصلي عليّ إلا أبلغنيها)).

تأمل هذين الحديثين تجد الملائكة يبحثون عن الذين يسلمون ويصلون على النبي ، ثم يبلغونه سلامهم وصلاتهم، فسبحان الله، أليس المصلي هو ممن يسلم ويصلي على النبي في تشهده فيقول: "السلام على النبي ورحمة الله وبركاته"، ويقول: "اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد..."؟! فبشراكم إذن أيها المصلون، فأنتم الذين تسبح من أجلكم الملائكة تبحث عن صلاتكم، وبقدر ما تصلّون بقدر ما تصحبكم الملائكة الأبرار، فأكثروا من الصلاة.

تبيّن بعد كل هذا ـ عباد الله ـ أن الصلاة تجلب الملائكة وتأييدهم، واستمعوا إلى ما رواه مسلم أن أبا جهل قال لأصحابه من الكفار يومًا: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ يقصد يسجد ويصلي أمامكم، قالوا: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأعفرن وجهه في التراب، وجاء وهو فرِح مسرور وقد أخذ البطر منه مأخذه ليرغم أنف النبي في التراب أثناء صلاته، فلما أراد أن يتقدم تراجع وراءه كالمصعوق، فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولاً وأجنحة، فقال : ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)) تقطعه تقطيعًا لأنه أراد أن يمد يده إلى ساجد لله تعالى الذي قال: ٱلَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ٱلسَّـٰجِدِينَ [الشعراء:218، 219].

عباد الله، ما بال أيدي الكفار تمتدّ إلينا؟ ما بال الشياطين لا تنفك عنا؟ لعلنا لم نحقق بعد السجود الحقيقي ليتحقق لنا الاقتراب من الله، اعتنوا بصلاتكم حق الاعتناء، فهي العمدة في إصلاح النّفس، والله ما كان الله ليتخلى عنا لو أننا اقتربنا إليه بالسجود، فإن كثيرًا من الناس يريدون الإصلاح من غير هذا الطريق، كما قيل لبني إسرائيل: وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، لكنهم دخلوا وهم يزحفون على أستاههم يستهزئون بالسجود، وقالوا: كيف ينصرنا الله بالسجود؟! كما يقوله كثير اليوم، فنخشى أن يكون مصيرنا كمصيرهم، فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ ٱلسَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة:59].

ونختم حديثنا بهذه القصة لعلها تزيدنا يقينا بما نقول، فقد روى ابن عساكر أن أحد السلف الأولين كان يكري حماره، فيركب الناس ويأخذهم من مكان إلى مكان، فاكترى منه رجل هذا الحمار وأخذه معه، قال: فإذا هو يقودني إلى مكان وعرٍ ليس فيه أحد. فلما وصل إلى وادٍ أخذ الرجل رمحه وأراد أن يقتل الرجل الصالح، فقال له: حسبك يا عبد الله، ما تريد؟ هذا الحمار وهذه الأموال خذها ودعني، قال: إنما أريد أن أقتلك كما قتلت غيرك في هذا الوادي، قال له: فدعني أصليّ لله ركعتين، فقام يصلي، قال: فمن شدة الخوف نسيت كل القرآن الذي كنت أحفظه، فعجلني الرجل وقال: عجّل، قال: فبعد أن قرأت الفاتحة ما تذكرت سوى قوله تعالى: أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء [النمل:62]، فلما أتممت صلاتي إذا بي أرى فارسًا أبيض قد أخذ رمحًا ورمى به الرجل فمات، فقلت له: يرحمك الله، من أنت؟ فقال: أنا رسول من قلت له: أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء [النمل:62].

إنه ملك من الملائكة الذين ينصر الله بهم عباده المصلين، جعلنا الله منهم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق