الصلاة منهاة عن السوء (4)

ملخص الخطبة

1- شروط الصلاة التي تنهى عن السوء. 2- الصلاة خير موضوع. 3- استكثار الصحابة من الصلاة. 4- الطريق إلى ولاية الله تعالى. 5- أهمية صلاة التطوع. 6- أنواع الصلاة النوافل.


الخطبة الأولى

أما بعد: فلعلكم قد لاحظتم أننا أطلنا الحديث عن الصلاة، وفي الحقيقة أنّنا لم نتكلم إلا عن ثمرة واحدة من ثمراتها ألا وهي أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا تزال هناك ثمرات لا تعدّ ولا تحصى ينبغي للمسلم أن يتمتع بحلاوتها وطلاوتها، وذكرنا فيما سبق أنه لا يمكن أبدًا أن ينتهي المصلي عن السوء إلا إذا أتى بصلاته بشروط هي: المحافظة على الصلاة في وقتها، وتعظيم الصلاة وحبها، وموافقتها لصلاة رسول الله والخشوع فيها، وكان آخر شيء رأيناه هو الصلاة مع جماعة المسلمين.

ونود أن نختم الكلام عن هذه الشروط بأمر عظيم كذلك، ربما غفل عنه الكثير، ألا وهو صلاة التطوع أو صلاة النوافل، هذه الصلوات التي لو فتحت أيّ كتاب من كتب الحديث لتعجبت أشد العجب من الفضل والثواب الذي ورد في شأنها، وهي تخبرك عمليًا أنها أكبر تجارة مع الله الذي إذا عاملته لم يظلمك شيئًا ولم يخذلك.

ننطلق في حديثنا اليوم معكم من قوله : ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع منكم أن يستكثر فليستكثر)) رواه أحمد عن أبي أمامة، وكأنه يقول لك: حاول ألا تضيع أي وقت يمكن أن تستغله بالصلاة، فهي العبادة التي لم يقيّد عددها، لذلك روى ابن ماجه عن أبي فاطمة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال: ((عليك بالسجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطّ عنك بها خطيئة))، وفي رواية لأحمد أنه قال له: ((يا أبا فاطمة، إن أردت أن تلقاني فأكثر السجود)). فكذلك هو نداء لكم إن أردتم لقاء رسول الله فأكثروا من السجود، أكثروا ما دام في الجسد روح، ما دام في البدن قوة، من قبل أن نشتاق ونفتقر إلى ركعة واحدة، فقد روى الطبراني عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله بقبر فقال: ((من صاحب هذا القبر))، فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)).

لذلك ثبت عن الصحابة عليهم من الله الرضوان أنهم كانوا يستكثرون من الصلاة، فقد روى أحمد عن مطرّف بن عبد الله بن الشخير قال: قعدت إلى نفر من قريش، فجاء رجل، فجعل يصلي ويركع ويسجد ولا يقعد، فاستكثروا ذلك فقالوا: ألا تقوم إليه فتقول له؟! قال: فقمت فقلت: يا عبد الله، ما أراك تدري تنصرف على شفع أو على وتر!! قال: ولكن الله يدري، سمعت رسول الله يقول: ((من سجد لله سجدة كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة)) فقلت: من أنت؟ فقال: أبو ذر، فرجع إلى أصحابه يوبخهم.

وروى مسلم عن أنس قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما، حتى نزل قوله تعالى: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، قال أنس: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء ما شاء الله أن يصلّوا.

ومشى على منهجهم خير القرون من التابعين وأتباعهم، فحققوا ولاية الله سبحانه لهم والذي قال سبحانه فيهم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:12، 13].

من أولياء الله أولئك؟ جاء في صحيح البخاري: ((من عادى لي وليًا آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيّنه ولئن استعادني لأعيذنه)).

فمن أراد أن يحظى بولاية الله له فليحرص على أداء الفرائض، وليزدد حرصًا على النوافل، لأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإلا فلا تتعجبوا من الخوف والحزن الذي ينتاب المسلمين في أيامنا هذه.

وتزداد قيمة صلوات التطوع ظهورًا إذا علمنا أن النوافل تجبر النّقص الذي يحصل في الفريضة، فمن ذا الذي ينصرف من صلاته كاملة، فقد جاء في مسند أحمد عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها)). ثم استمع إلى ما رواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة مرفوعًا: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عماه صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته شيء قال الله تعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة)).

فبهذا يظهر جليًا فضل النوافل وأهميتها، إذ هي التي تحمي لك الفريضة من صلواتك.



الخطبة الثانية

الحمد لله الذي فرض على عباده الصلاة، وجعلها لهم من أحلى الطاعات، وشرع لهم منها من النوافل والقربات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه سادة السادات.

أما بعد: فقد ظهر لنا جليًا أهمية صلاة التطوع، فلنعلم كذلك أنّ أهم صلوات التطوع هو ما واظب عليه النبي كالسنن الرواتب وصلاة الضحى وصلاة الليل.

أما الرواتب فهي اثنتا عشرة ركعة يصليها المسلم في اليوم والليلة، فقد روى مسلم وابن خزيمة وغيره عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة))، زاد ابن خزيمة: ((أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الغداة)).

وعن عائشة مرفوعًا: ((أربع ركعات قبل الظهر يعدلن بصلاة السحر)).

وعن أبي أيوب الأنصاري قال: أدمن رسول الله أربع ركعات عند زوال الشمس قال: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الركعات التي أراك قد أدمنتها؟ قال: ((إن أبواب السماء تفتح عند زوال الشمس فلا تغلق حتى يصلى الظهر، فأحبّ أن يصعد لي فيها خير)) رواه أحمد.

وهذه الصلوات تعتبر حصنًا حصينًا للفرائض، فلا يمكن أن يؤدي المرء هذه الصلوات ثم تراه يتهاون في الفرائض.

ولقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمّن واظب على ترك السنن الرواتب فقال: هذا يدل على قلة دينه فلا تقبل له شهادة. وبهذا أفتى الإمام النووي رحمه الله.

فانظروا إلى تعظيم العلماء لهذه الصلوات، لأنهم يعلمون يقينًا أن ثمرات الصلاة لا يمكن أن تؤتي أكلها دون النوافل، وهل يملُّ المحب ما يحبّ؟!

هذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وللحديث بقية إن شاء الله رب العالمين

0 التعليقات:

إرسال تعليق