الدّرس 19

الدّرس التّاسع عشر من شرح " نظم الورقات "

تابع: ( العامّ والخاصّ المُطْلَقِ والمُقَيَّد ).

- النّوع الثّاني: التّخصيص المنفصل.

التّخصيص المنفصل هو: المخصِّص المستقلّ بنفسه، أو هو: الدّليل المنفصل عن اللّفظ العام.

وقد ذكر النّاظم رحمه الله أربعة أنواع من المخصّص المنفصل: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس.

فقال رحمه الله:

ثُمَّ الكِتاَبَ بِالكِتاَبِ خَصَّصُوا
وَخَصَّصُوا بالسُنَّةِ الكِتاَباَ
وَالذِّكْرُ بِالإِجْماَعِ مَخْصُوصٌ كَماَ



وَسُنَّةٌ بِسُنَّةٍ تُخَصَّصُ
وَعَكْسَهُ اسْتَعْمِلْ يَكُنِ صَواَباً
قَدْ خُصَّ بِالقِياَسِ كُلٌّ مِنْهُماَ

· تخصيص الكتاب بالكتاب: ومن الأمثلة على ذلك:

1- قوله تعالى:]وَالمُطَلَّقاَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ[، فإنّ لفظ " المطلّقات " عامّ، لأنّه جمع معرّف بـ( ال )، فيشمل كلّ مطلّقة، سواء كانت حاملا أو غير حامل، مدخولا بها أو غير مدخول بها، بالغة كانت أو صغيرة.

لكنّ هذا العموم خُصّ منه سبعُ نسوة، خمسٌ خصّهن الكتاب:

- المطلّقة الحامل: لقوله تعالى:]وَأَوْلاَتُ الأَحْماَلِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[، فعدّتها بوضع الحمل.

- غير المدخول بها: لقوله عزّ وجلّ:]ياَ أَيُّهاَ الّذينَ آمَنُوا إِذاَ نَكَحْتُمْ المُؤْمِناَتِ ثمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مَنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَماَ لَكُمْ عَلَيْهَنَّ مَنْ عَدَّةٍ تَعْتَدُّونَهاَ[.

- والصّغيرة التي لم تحض.

- واليائس من المحيض: فإنّهما تعتدّان بالأشهر، لقوله تعالى:]وَاللاَّء يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِساَئِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّءِِ لَمْ يَحِضْنَ[.

- والمطلّقة المتوفّى عنها زوجها: لقوله سبحانه تعالى:]وَالَّذينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزوَاجاً يَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَربَعَةَ أَشهُرٍ وَعَشراً[[1].

* مثال آخر: قوله تعالى:]وَالّذين يَرْمُونَ المُحْصَناَتِ[، فهذا عامّ، لأنّ لفظ " الّذين " اسم موصول، يشمل الزّوج وغيره.

لكنّ هذا العموم خصّ بقوله تعالى:]وَالّذينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداَء إِلاَّ أنفُسَهُم...[ الآية، كما هو معروف في حكم اللّعان.

* مثال ثالث: قال عزّ وجلّ:]وَلاَ تَنْكِحُوا المُشرِكاَتِ[، فهذا نصّ عامّ لأنّ لفظ " المشركات " جمع معرّف بـ( ال)، فيشمل الكتابية وغيرها، لأنّ أهل الكتاب مشركون لقوله تعالى:]وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ وَقاَلَتِ النَّصاَرىَ المَسيِحُ ابْنُ اللهُ[، إلى أن قال تعالى:]سُبْحاَنَهُ عَماَّ يُشْرِكُونَ[.

ولكنّ هذا العموم خصّ منه أهل الكتاب، فيجوز نكاح نسائهم، والمخصّص هو قوله تعالى:]وَالمُحْصَناَتُ مِنَ الّذينَ أُوتُوا الكِتاَبَ مَنْ قَبْلِكُمْ[.

· تخصيص السنّة بالكتاب:

وهو واقع خلافا لبعضهم، لذلك قال النّاظم رحمه الله: ( وعَكْسَهُ اسْتَعْمِلْ يَكُنْ صَواَباً ).

ومن الأمثلة على ذلك:

* قوله r: (( لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِذاَ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ )) [متفق عليه].

فهذا نصّ عامّ، لكنّه خصّ بقوله تعالى:]فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا[.

* قوله r: (( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداَ رَسُولُ اللهِ )) [متفق عليه]. فلفظ "النّاس" عامّ، لأنّه اسم جمع معرّف بـ( ال )، فيشمل كلّ كافر.

لكنّ هذا العموم خصّ منه أهل الكتاب، فقال تعالى:]قَاتِلُوا الّذين لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ وَلاَ بِاليَومِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدينُونَ دِينَ الحَقِّ مَنَ الّذينَ أُوتُوا الكِتاَبَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاَغِرُونَ[.

· تخصيص الكتاب بالسنّة: ولو كانت السنّة آحادا خلافا للحنفية، وهو واقع كثيرا.

* قال تعالى:]يُوصِيكُمُ اللهُ فيِ أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ[، فلفظ " أولادكم " عامّ لأنّه جمع معرّف بالإضافة.

لكنّ هذا العموم خصّ بقوله r: (( لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكاَفِرَ، وَلاَ الكاَفِرُ المُسْلِمَ )) [البخاري عن أسامة بن زيد].

* قال الله تعالى:]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ[، فلفظ " الميتة " عامّ، وكذلك لفظ " الدمّ "، لأنّ كلاّ منهما مفرد معرّف بـ( ال ).

لكنّ هذا العموم خصّ بحديث ابن عمر t موقوفا: (( أُحِلَّتْ لَناَ مَيْتَتاَنِ وَدَماَنِ )). [ابن ماجه، وأحمد]

· تخصيص السنّة بالسنّة:

ومن الأمثلة على ذلك:

ما رواه البخاري عن ابن عمر t أنّ رسول الله r قال: (( فِيماَ سَقَتْ السَّماَءُ وَالعُيُونُ أَوْ كاَنَ عَثَرِياًّ العُشُرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشُرِ ))[2].

فهذا الحديث عامّ في النوع والكَمّ، أي: إنّ ظاهره وجوب الزّكاة في كلّ ما يخرج من الأرض، وفي القليل والكثير.

ودليل العموم هو الاسم الموصول في قوله:" فيما ".

لكنّ العموم هذا مخصَّصٌ نوعا وكماّ.

فالمخصّص للنّوع هو قول عمر t: »إنّما سنّ رسول الله r الزّكاة في هذه الأربعة: فذكر الحنطة والشعير والتمر والزبيب.

وقد صحّ عن أبي موسى ومعاذ رضي الله عنهما مثله.[ أخرجه الحاكم والبيهقي، وانظر " الصّحيحة (879)].

والمخصّص للكمّ هو حديث أبي سعيد الخدري t مرفوعا: (( لَيْسَ فِيماَ دُونَ خَمْسَةَ أَوْ سُقٍ صَدَقَةٌ )) [متفق عليه].

· تخصيص الكتاب بالإجماع: ومن الأمثلة على ذلك:

- قوله تعالى:]يُوصِيكُمُ اللهُ فيِ أَوْلاَدِكُمْ[، فلفظ:" أولادكم " عامّ – كما سبق – يشمل الأحرار والعبيد.

لكنّ الإجماع انعقد على أنّ العبد لا يرث.

- قوله تعالى:]لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ[، فهذا عامّ يشمل الإخوة الأشقاء والإخوة لأب والإخوة لأم.

لكنّ الإجماع انعقد على أنّه خاصّ بالإخوة الأشقّاء والإخوة لأب، أمّا الإخوة لأمّ فيأخذون بالسويّة ذكورا وإناثا.

· تخصيص السنّة بالإجماع: ومن الأمثلة على ذلك:

قوله r عن الماء: (( إِنّ الماَءَ طهورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شيءٌ ))[3]. فلفظ " الماء " عامّ يقع على القليل والكثير.

لكنّ الإجماع انعقد على أنّ الماء إذا لاقته نجاسة وغيّرت أحد أوصافه الثّلاثة فهو نجس.

· تخصيص الكتاب بالقياس:

قال تعالى:]الزَّانيةُ وَالزَّانيِ فَاجْلِدُوا كُلَّ واَحِدٍ مِنْهُماَ مِئَةَ جَلْدَةٍ[، فلفظ " الزّانية " عامّ يشمل الحُرّة والأمة.

ولكنّ هذا العموم خُصّ أوّلا بالكتاب – وهو قوله تعالى في الأمة إذا زنت:]فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ماَ عَلىَ المُحْصَناَتِ مِنَ العَذاَبِ[- ثمّ خُصّ " الزّاني " كذلك بالقياس على الأمة، بجامع الرّق.

· تخصيص السنّة بالقياس:

قال r: (( البِكْرُ بِالبِكْرِ، جَلْدُ مِئَةٍ وَنَفيُ سَنَةٍ ))[4].

ولفظ " البكر " مفرد معرّف بـ( ال )، فيشمل الحرّ والعبد.

لكنّ هذا العموم خصّ بقياس العبد على الأمة، فيُقتصر في جلده على خمسين جلدة.

وهذا تمام الحديث عن العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والله الموفّق لا ربّ سواه.



[1]/ وخصّت السنة امرأتين: المختلِعة، والأمة.

[2]/ ومعنى " عَثَرِيّاً ": هو النّخل الذي يشرب بعروقه من التّربة دون سقي. و" النّضح ": الإبل التي يستقى عليها.

[3]/ الحديث أخرجه أصحاب السنن إلاّ ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري.

[4]/ الحديث أخرجه مسلم عن عبادة بن الصّامت.

0 التعليقات:

إرسال تعليق