الدّرس 18

الدّرس الثّامن عشر من شرح " نظم الورقات "

تابع باب ( العامّ والخاصّ ): المُطْلَقِ والمُقَيَّد.

سبق أن ذكرنا أنّ المخصّص نوعان: مخصّص متّصل – وهو الشّرط، والوصف، والاستثناء –، ومخصّص منفصل، وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى بعد بيان المطلق والمقيّد.

وإنّ النّاظم لم يُفرِد المطلق والمقيّد بباب على حدة، وإنّما أدرجه تحت باب العامّ والخاصّ، لأنّ ما به يتمّ التّخصيص يتمّ به التّقييد أيضا.

· حدّ المطلق: لغة هو ضدّ المقيّد، أو: المُرْسَلْ.

اصطلاحا:ما دلّ على الحقيقة بلا قيد،كقولنا: أكرِم رجلا.

فبقولنا:" ما دلّ على الحقيقة " خرج العامّ، فهو يدلّ - زيادة على الحقيقة - على العموم.

وبقولنا:" بلا قيد "خرج المقيّد.

· حدّ المقيّد: لغة: هو ما وُجِد فيه قيد.

اصطلاحا: هو ما دلّ على الحقيقة بقيد، كقولنا: أكرِم رجلا صالحا.

حكم المطلق:

" يجب العمل بالمطلق على إطلاقه إلاّ بدليل يدل على تقييده، لأنّ العمل بنصوص الكتاب والسنّة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك ".[ الأصول من علم الأصول ].

فإذا ورد نصّ فيه تقييد، قال النّاظم رحمه الله:

وَيُحْمَلُ المُطْلَقْ مَهْماَ وُجِداَ

عَلىَ الّذي بِالوَصْفِ مِنْهُ قُيِّداَ

أي: يحمل المطلق على المقيد كما يحمل العامّ على الخاصّ، وهو قول صحيح، لكنّه يحتاج إلى تفصيل، لذلك قال العلماء: إذا ورد نصّ مطلق ونصّ مقيد ننظر:

إماّ أن يتحدا في الحكم والسبب معا.

وإماّ أن يختلفا في الحكم والسبب معا.

وإماّ أن يتحدا في الحكم دون السبب.

وإماّ أن يختلفا في الحكم دون السبب.

· الحالة الأولى: إذا اتّحدا في الحكم والسّبب معا.

فحينها يجب تقييد المطلق بالمقيّد والعامّ على الخاصّ بلا خلاف بين العلماء، ومن الأمثلة على ذلك:

- قوله عزّ وجلّ:]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ وَالدَّم[، وقوله في آية أخرى:]قُلْ لاَ أَجِدُ فِيماَ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماَ عَلىَ طاَعِم يَطْعَمُهُ إِلاَّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً[، ففي الآية الأولى نرى لفظ " الدمّ " عامّا، وفي الآية الثّانية قُيِّد وخُصّ بكونه مسفوحا، وكلا النّصين اتّحدا في الحكم وهو – التّحريم –، وفي السّبب – وهو أكل الدّم -، فوجب حمل النّص المطلق على المقيّد والعامّ على الخاصّ ، ونقول بتحريم الدّم المسفوح دون غيره.

- مثال آخر: حديث (( لاَ نِكاَحَ إِلاَّ بِوَلِيّ وَشاهِدَيْنِ ))[1]، مطلق، وجب تقييده بقوله r: (( لاَ نِكاَحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشاَهِدَيْ عَدْلٍ ))، لاتّحادهما في الحكم - وهو وجوب الإشهاد -، وفي السّبب - وهو: النّكاح -.

- مثال ثالث: حديث ميمونة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: (( ماَ مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ إِلاّ شُفِّعُوا فِيهِ )) [رواه أحمد]، وقد جاء عن ابن عبّاس t قال: قال رسول الله r: (( ماَ مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلىَ جَناَزَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً، لاَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً إِلاَّ شُفِّعُوا فِيه )) [رواه أحمد كذلك].

فحديث ميمونة رضي الله عنها أطلق العدد، فقال:" أُمَّةٌ "، وحديث ابن عبّاس t مقيّد بوصفين:

الأوّل: مقيّد العدد، وهو أربعون رجلا.

الثاني: مقيّد بالوصف وهو ( لاَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً ).

وبما أنّ السّبب واحد، والحكم واحد، وجب حمل المطلق على المقيّد.

· الحالة الثّانية: إذا اختلفا في الحكم والسّبب معا.

فلا يحمل المطلق على المقيّد بلا خلاف بين العلماء كذلك.

· مثاله:قوله تعالى:]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُماَ[، وقال في آية الوضوء:]فَاغْسِلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلىَ المَرَافِقِ[، فلا يحمل لفظ: " الأيدي " المطلق في الآية الأولى على المقيّد في الآية الثانية، لأنّهما اختلفا في الحكم – وهو أنّه في الآية الأولى قطع وفي الثانية غسل –، واختلفا في السّبب – ففي الآية الأولى سبب القطع هو السرقة وفي الثانية سبب الغسل هو إرادة الصّلاة -.

· الحالة الثّالثة: إذا اتفقا في الحكم واختلفا في السّبب.

ففي المسألة خلاف كبير، فالجمهور على أنّه يحمل المطلق على المقيّد، والحنفية على عدم حمله عليه.

ومن الأمثلة على ذلك: قوله تعالى في الظّهار:]فَتَحْرِيرُ َرقَبَةٍ مِنُ قَبْلِ أَنْ يَتَماسَّا[، وقال في آية اليمين:]أَو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ[، فكلا النصّين مطلق، حيث أطلق الرّقبة ولم يقيّدها بوصف الإيمان.

فهل تقيّد الرّقبة بالإيمان أخذا بقوله تعالى في كفاّرة القتل:]فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ[ ؟

فالجمهور قالوا: إنّ الحكم واحد – وهو تحرير الرّقبة – فيحمل المطلق على المقيّد، وإن اختلفا في السّبب.

· الحالة الرّابعة: إذا اختلفا في الحكم واتّحدا في السبب.

ففي هذه الحالة لا يحمل المطلق على المقيّد عند الأكثرين.

مثاله: قوله تعالى في الوضوء:]وَأَيدِيكُمْ إِلَى المَرَافِقِ[، فالأيدي مقيّدة بالمرافق. فعل تقيّد الأيدي بالمرافق في آية التيمّم:]فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيدِيكُمْ مِنْهُ[ ؟

فالجمهور على أنّه لا يحمل لفظ " الأيدي " المطلق في التيمّم على لفظ " الأيدي " المقيّد في الوضوء، ولا يقال: التيمّم في الأيدي يكون إلى المرافق، لأنّه وإن كان السّبب واحدا – وهو إرادة الطّهارة للصّلاة –، فإنّ الحكم مختلف: ففي الأولى غسل، وفي الثانية مسح.

الحاصل: أنّ مذهب الجمهور هو حمل المطلق على المقيد إذا اتّحدا في الحكم، وإن اختلفا في السبب[2].

والصّواب هو مذهب الحنفيّة، والله أعلم.

قال النّاظم رحمه الله:

وَيُحْمَلُ المُطْلَقْ مَهْماَ وُجِداَ
فَمُطْلَقُ التَّحْرِيرِ فيِ الأَيْماَنِ
فَيُحْمَلُ المُطْلَقُ فيِ التَّحْرِيرِ

عَلىَ الّذي بِالوَصْفِ مِنْهُ قُيِّداَ
مُقَيَّدٌ فيِ القَتْلِ بِالإِيمَانِ
عَلىَ الّذي قُيِّدَ فيِ التَّكْفِيرِ

فالمتبادر إلى الذّهن من قوله: ( مَهْمَا وُجِدَا ) أنّ المطلق يحمل على المقيد في جميع الحالات، وهو غير مراده.

ثمّ عاد النّاظم رحمه الله إلى بيان النّوع الثّاني من أنواع التّخصيص.



[1]/ وفي زيادة (( وشاهدين )) كلام طويل لأهل العلم.

[2]/ مع ذلك هناك شرط مهمّ لذلك وهو أن لا يؤدي هذا الحمل إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق