الدّرس 20

الدّرس العشرون من شرح " نظم الورقات "

( باب الُمُجْمِلِ وَالمُبَيَّنِ، وَالظاَّهِرِ وََالمُؤَّولِ،

وَالنَّصِ ).

اعلم أنّ الكلام المفيد له ثلاث صور: إمّا أن يكون لا يحتمل إلاّ معنىً واحدا – و هو النّص –، أو يكون يحتمل معنيين.

فإن ترجّح أحدهما كان الرّاجح ظاهرا، وإن تساويا كان الكلام مجملا.

وقد ابتدأ النّاظم بيان المجمل، وكان الأولى أن يشرع في بيان النصّ لأنّه أقوى وأوضح، فقال رحمه الله تعالى:

مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانِ
إِخْرَاجُهُ مِنْ حَالَةِ الإِشْكَالِ
كَالقرءِ وَ هْوَ وَاحِدُ الأَقْرَاءِ

فَمُجْمَلٌ، وَ ضَابِطُ البَيَانِ
إِلىَ التَّجَلِّي واَتِّضَاحِ الحَالِ
فِي الحَيْضِ وَالطُّهرِ مِنَ النِّسَاءِ

أوّلا: المجمل.

1- تعريفه: لغة هو اسم من " أَجْمَلَ " إذا خلطه ولم يميّزه عنه فيصير مبهما.

اصطلاحا: هو لفظ يحتمل أكثر من معنى وليس أحدُهما أرجحَ من الآخر.

فبقولنا:" لفظ يحتمل أكثر من معنى " خرج النّص، وسنذكره إن شاء الله.

وبقولنا:" ليس أحدهما أرجح من الآخر " خرج الظّاهر والمؤوّل وسيأتي ذكرهما أيضا.

فالمجمل: هو الّذي لا يتّضح المقصود منه لتردّده بين معانٍ متساوية في الاحتمال.

ولك أن تعرّفه بأنّه:" ما يتوقف فهم المراد منه على غيره، إماّ في تعيينه، أو بيان صفته، أو مقداره ".

أمثلة:

* قال تعالى:]وَالمُطَلَّقاّتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأّنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ[. فإنّ " القرء " – بفتح القاف وضمّها – يطلق ويراد به الحيض والطّهر، فهو لفظ مشترك، يحتاج تعيينه إلى دليل، لذلك كان مجملا.

* وقال تعالى:]وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكاَةَ[. فإنّ لفظ " الصّلاة " مفهوم الحقيقة، لكنّه مجمل في الصّفة. ولفظ "الزّكاة" مفهوم الحقيقة لكنّه مجمل في المقدار، ويحتاج كلّ منهما إلى بيان.

* وقال تعالى:]أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[ [البقرة: من الآية237]، فالّذي بيده عقدة النّكاح لفظ يحتمل أن يقصَد به الزّوج، ويحتمل أن يُقصد به وليّ المرأة، لذلك فهو مجمل.

2- حكمه:

فإذا لم يتبيّن للمجتهد معنى المجمل، فإنّه لا يجوز العمل بأحد معاني المجمل حتّى يأتي الدّليل المبيّن، لأنّ أحد المعاني ليس أولى من غيره، والدّليل الذي يبيّن هو " المبيِّن " – بكسر الياء-، فيصير النّص بعدها هو:

ثانيا: المبيَّن – بفتح الياء –:

1- تعريفه: لغة: هو اسم مفعول من " بَيَّنَ " من " البيان "، أي: التبيين، ومعناه " الموَضَّح "، فالبيان هو الإيضاح، وهو إخراج اللّفظ من حالة الإجمال والخفاء إلى حالة الظهور والاتضاح.

اصطلاحا: هو اللّفظ الداّل على معنى بعد التبيين.

فخرج بقولنا:" اللّفظ الدّال على معنى " المجمل فإنّه لا يفهم منه معنى معين.

وبقولنا "بعد التبيين" خرج "النّص" فإنّه لم يدخله إشكال حتّى يصير مبيّنا.

· أمثلة:

- قال تعالى:]وَالمُطَلَّقاّتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأّنْفُسِهِنَّ ثلاثةَ قُرُوءٍ[، فهو – كما سبق بيانه – نصّ مجمل، لأنّ القرء لفظ مشترك بين الطّهر والحيض. لكن بعد ما يقف الطّالب على أدّلة الحنفيّة في حملهم " القرء " على " الحيض "، يرتفع هذا الإجمال، ويعتقد بأنّ عدّة المرأة تكون بالحيض.

من تلك الأدلّة قولهr: (( دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْراَئِكِ )) [أخرجه أصحاب السّنن إلاّ النسائي]، وقوله تعالى:]وَاللاّءِ يَئِسْنَ منَ المَحِيضِ مِنْ نِساَئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهَرٍ وَاللاَّء لَمْ يَحِضْنَ[، فجعل الأشهر بدلا من الحيض لا من الأطهار فدلّ أنّ الحيض أصل في العدّة. ثمّ النظر يؤيِّد ذلك، فَإِنَّ من مقاصد العدّة استبراء الرّحم، والعلامة الدّالة على براءته إنّما هو الحيض لا الطّهر، لأنّ الطّهر تشترك فيه الحامل والحائل.

- قوله تعالى:]وَأَقِيموُا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ[، نصّ مجمل الكيفيّة والمقدار، ولكنّ النَبيَ r بيّن معناه ببيان صفة الصّلاة، ومقدار الزّكاة قولا وعملا.

- وقوله تعالى:]أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[ مجمل – كما سبق بيانه – والرّاجح عند جمهور أهل العلم أنّه الزّوج، لقوله تعالى بعد: ]وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[، فذلك يرد على من يُسقِط حقّ نفسه لا حقّ غيره.

- وقوله تعالى:]وَلِلَّهِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ[، بيّنه النّبيّ r قولا وعملا كذلك.

2- حكمه:

إذا حصل بيان المجمل وجب العمل به.

ولا بدّ أن نعلم أنّ النّبيّ r قد بيّـن لأُمَّته جميع شريعته، أصولها وفروعها، حتىّ ترك الأمّة على شريعة بيضاء نقيّة، ليلها كنهارها، ولم يترك البيان عند الحاجة إليه أبدا. فلم يبقَ نصّ من نصوص الكتاب أو السنّة بعد وفاته مجملا، وإنّما يبقَى الإجمال واردا في حقّ المجتهد.

لذلك كان من القواعد المقرّرة لدى أهل العلم أنّه: ( لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ).

ثالثا: النّص:

1- تعريفه: لغة هو من نَصَّ ينُصُّ الشيء إذا رفعه، ومنه منصّة العروس.

اصطلاحا: هو اللّفظ الّذي لا يحتمل إلاّ معنى واحدا.

فخرجنا بقولنا هذا المجمل والظّاهر.

أماّ المجمل فخرج لأنّه لا يحتمل معنى معيّنا.

وأمّا الظاّهر فقد خرج أيضا لأنّه يحتمل معنيين فأكثر هو راجح في أحدها.

ومن الأمثلة الّتي أشار إليها النّاظم قولك:" رأيت جعفرا "، فإنّ هذا لفظ لا يحتمل إلاّ معنى واحد، فهو نصّ.

لذلك قال بعض العلماء في تعريفه:" هو ما تأويله تنزيله "، أي إنّ تفسيره هو النّطق به فحسب.

قال النّاظم رحمه الله تعالى:

وَالنَّصُّ عُرْفاً كُلُّ لَفْظٍ واَرِدِ
"كَقَد رأيت جعفرا" وقيل:ما

لَمْ يَحْتَمِل إلاَّ لِمَعْنَى واَحِدِ
تأويله تنزيله فليعلما)

أمثلة:

- قال تعالى:]وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكُلِيماَ[، فهذان نصّ صريح في إثبات صفة الكلام لله تعالى.

- وقوله تعالى:]وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً[ [البقرة: من الآية234]، فهذا نصّ صريح في بيان عدّة المرأة المتوفّى عنها زوجها.

- ومثله أيضا قوله تعالى:]فَصِياَمُ ثَلاَثَةِ أَياَّمٍ فيِ الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذاَ رَجَعتُمْ[ فهي نصّ في كفاّرة التمتّع.

- وقوله تعالى:]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ[ [المائدة: من الآية 3]، نصّ في تحريم الميتة وما ذكر معها، لا يحتمل الكلام معنًى آخر.

2- حكمه: النّص قطعي الدّلالة، فيجب العمل به ولا يقبل التّأويل ويقبل النّسخ.

تنبيه: قول النّاظم رحمه الله: ( والنّص عُرْفاً) يقصِد تعريف النّص عند الأصوليين وفي عرفهم، لأنّ النّص عند الفقهاء يطلق ويراد به نصوص الكتاب والسنّة، فهو عندهم يقابل الإجماع والقياس وغيرهما، أماّ عند أهل الأصول فهو يقابل الظاّهر والمؤول والمجمل والمبيّن

0 التعليقات:

إرسال تعليق