الدّرس 9

الدّرس الثّامن من شرح " نظم الورقات "

( تتمّة في الخبر والإنشاء )

سبق أن ذكرنا أنّ مباحث الكلام وتقسيمه إلى خبر وإنشاء ليس من أصول الفقه، إلاّ إذا قلنا: إنّ الأسلوبين قد يتقارضان، فيخرج كلّ أسلوب عن حقيقته:

فربّما جاء الخبر مرادا به الإنشاء، كالنّهي والأمر، نحو قوله تعالى:]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[، فهذا خبر يراد به النّهي عن الإكراه في الدّين.

مثله قوله عزّ وجلّ:]وَالوَالِدَاتِ يُرْضِعْنَ[، فهذا خبر يراد به الأمر كذلك.

وربّما جاء الإنشاء مرادا به الخبر، نحو قوله تعالى:]فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَليَبْكُوا كَثِيرًا[، فهذا صورته صورة الأمر لأنّه مضارع مقترن بلام الأمر، لكنّ معناه هو الخبر أي: إنّهم مهما يضحكوا فهم يضحكون قليلا في هذه الدّنيا، وسيبكون كثيرا يوم القيامة.

وعليه، فإنّ قول العلماء:" إنّ النصوص الخبرية لا تتضمّن أيّ حكم تكليفي وإنّما قد تتضمّن حكما وضعيا "، لا بدّ أن يقيّد، بأن يقال: إلاّ إذا خرج الخبر عن أصله بقرينة، فيكون متضمّنا لحكم تكليفيّ يستفيده العالم، والنّصوص الإنشائية تتضمّن الحكم التكليفي كأمر ونهي، إلاّ إذا خرجت إلى الخبر. والله أعلم.

· ثالثا: أنواع الكلام من حيث استعماله: وهذا من مباحث علم البيان في علم البلاغة أيضاً.

وهو نوعان: حقيقة ومجاز.

1- الحقيقة: لغة: مشتقّة من ( حقّ ) أي ( ثبت )، ومعناها: الشّيء الثّابت.

أمّا اصطلاحا: فهي اللّفظ المستعمل في المعنى الّذي وضع له.

فمتى تطابق الاستعمال مع الوضع فهو الحقيقة.

فقد وضعت العرب للحيوان المفترس لفظ ( أسد )، فإذا استعملته فيما وضِع له كان ذلك هو الحقيقة.

والوضع هو: تعيين اللّفظ لمعنى، فقد يكون الوضع لغويّا، وقد يكون عرفيّا، وقد شرعيّا.

من أجل ذلك كانت الحقيقة ثلاثة أنواع بحسب تنوّع الوضع:

1- الحقيقة اللّغويّة: وهو ما ثبت عن العرب من كلامها.

2- الحقيقة العرفيّة: وهو اللّفظ الّذي وضعه النّاس فيما بينهم ليدلّ على معنى معيّن وخالفوا فيه الوضع اللّغويّ. كتخصيصهم لفظ ( الدابّة ) بمن يمشي على أربع دون غيره، ولفظ ( اللّحم ) بما يؤكل من الأنعام.[1]

3- الحقيقة الشّرعيّة: وهو ما وضعه الشّارع ليدلّ على معنى معيّن، فقد يكون أخصّ من المعنى اللّغويّ أو العرفيّ.[2]

*فالكلمة الواحدة قد تكون حقيقة ومجازا باعتبارين، فلو عبّرت مثلا بكلمة " دابّة " عن الحيوان الذي يمشي على أربع، وكنت في المجال العرفي بعيدا عن اللّغويين فالاستعمال حقيقيّ، والكلمة بهذا الاعتبار حقيقة، أمّا لو عبّرت بالكلمة نفسها " دابّة " وتعني بها الّذي يمشي على أربع وكنت في المجال اللّغوي فالاستعمال حينئذ مجازي، والكلمة بهذا الاعتبار مجاز.

لذلك كلّه عرّف فريق آخر من العلماء الحقيقة بقولهم ( استعمال اللّفظ فيما وضع له في اصطلاح التخاطب )؛ ليشمل أنواع الحقيقة الثلاثة.

قال النّاظم رحمه الله تعالى في ذكر القسم الثالث من أنواع الكلام مبيّنا التعريفين السّابقين للحقيقة:

وَثَالِثًا إِلَى مَجَازٍ وَ إِلَى
مِنْ ذَاكَ فِي مَوْضُوعِهِ وَقِيل: مَا
أَقْسَامُهَا ثَلاَثَةٌ : شَرْعِيَّ

حَقِيقَةٍ، وَحَدُّهَا : مَا اسْتُعْمِلاَ
يَجْرِي خِطَابًا فِي اصْطِلاَحٍ قُدِّمَا
وَاللُّغَوِيُّ الوَضعِ، وَالعُرْفِيُّ

وإنّما لجئوا إلى التعريف الثاني، لأنّهم اصطدموا بمن يقول إنّ الوضع لا يكون إلاّ لغويّا.

2-المجاز: لغة من من الجواز، أي: التوسّع.

وسمّي المجاز بذلك لأنّ به يتمّ العبور إلى المعاني البليغة، فمعنى المجاز: طريق القول ومأخذه.

اصطلاحا: هو اللّفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة وقرينة.

فمتى خالف الاستعمالُ الوضعَ، كان الكلام مجازا.

فكلمة ( الأسد ) – مثلا – وُضِعت للحيوان المفترس كما مرّ، فلو استعملها المتكلّم مرادا بها الرّجل الشّجاع كانت مجازا.

وعلم من حدّ المجاز أنّه لا بدّ من علاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

والعلاقة إمّا أن تكون المشابهة أو غيرها.

أ- فإن كانت المشابهة سمّي المجاز" استعارة "، كاستعمال الأسد للشّجاع.

ب- وإن كانت العلاقة غير المشابهة ننظر:

1- إن كان المجاز في الكلمات بالحذف، أو الزيادة، أو ذكر المحلّ وإرادة الحالّ، ونحو ذلك سمّي المجاز " مجازا مرسلا ".

ومثّلوا للمجاز بالحذف بقوله تعالى:]وَاسْأَلِ القَرْيَةَ[.

ومثلوا للمجاز بالزيادة بقوله تعالى:}لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ{، فقالوا: إنّ الكاف زائدة لتوكيد نفي المثل عن الله جلّ وعلا، وفي هذا التمثيل نظر بيّن[3].

ومثال عن المجاز بذكر المحلّ وإرادة الحالّ: تسمية البراز غائطا باعتباره محلاّ له، وهو ما سمّاه الناظم مجازا بالنّقل.

ج- وإن كان المجاز في "الإسناد" – أي إضافة شيء إلى غير ما هو له – فهو مجاز عقلي كقوله تعالى:]فَوَجَدَا فيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ[، فإسناد الإرادة إلى الجدار تجوّز تقبله اللّغة.

ومثله قولنا:" أنبت المطر العشب "، فإنّ إسناد الإنبات إلى المطر مجاز كذلك، وإلاّ فالمنبت له هو الله تبارك وتعالى.

وإلى كلّ هذه الأنواع من أنواع المجاز أشار النّاظم رحمه الله بقوله:

ثُمَّ المَجاَزُ ماَ بِهِ تُجُوِّزا
بِنَقْصٍ، أَوْ زِياَدَةٍ أَوْ نَقْلٍ
وَهْوَ المُراَدُ فيِ سُؤاَلِ القَرْيَهْ
وَكاَزْدِيادِ الكاَفِ فيِ (كَمِثْلِهِ)
راَبـــِعُهاَ كـقَوْلــِهِ تـَعــــــاَلـى

فيِ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضوُعِهِ تَجَوُّزاَ
أَوْ استِعاَرَةٍ، كَنَقْصِ (أَهْلِ)
كَماَ أَتىَ فيِ الذِّكْرِ دوُنَ مِرْيِهْ
والغَائِطِ المَنْقوُلِ عَنْ مَحَلِّهِ
(يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) يعني: ماَلاَ

ملحوظتان:

1) نلحظ أنّ الناّظم سمّى النّوع الرّابع من أنواع المجاز بـ( الاستعارة )، وهذا خلاف المشهور، فإنّ هذا إسناد عقلي، ووجه اعتبار المصنِّف له استعارة هو أنّه استعار الإرادة من الإنسان ولم يذكر الإنسان مع بقاء شيء من لوازمه وهو الإرادة، وعلى هذا فلا مشاحّة في الاصطلاح.

2) إنّ صور المجاز كثيرة جداّ ليس هذا هو موضع بسطها، وإنّما مجالها هو علم البيان والمهمّ هو أن يدرك الطالب أنّ اللّفظ مجاز.

والأهمّ من ذلك كلّه أن يدرك إدراكا جيّدا أنّه لا بدّ من قرينة تصرف اللّفظ عن الحقيقة إلى المجاز، لأنّ هذا ينبني عليه أصل مهم وهو:

-الأصل في الكلام الحقيقة:

فـ:" لا يُصار إلى المجاز إذا أمكن المعنى الحقيقي، أي إنّ الكلام يحمل على الحقيقة كلّما أمكن هذا الحمل، فإذا تعذّر حمل الكلام على الحقيقة فإنّه يصار إلى المجاز لأنّ إعمال الكلام خير من إهماله " [" الوجيز " لعبد الكريم زيدان (335)].

ومن الأمثلة على ما تقرّر من القواعد في هذا الباب:

أ‌) قوله r : (( البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا )) [متفق عليه].

فقد احتجّ به الشافعية والحنابلة على ثبوت خيار المجلس. وقال المالكية والحنفية بعدم ثبوته محتجّين بأنّ المراد من " المتبايعين " المتساومان، وافتراقهما يكون بالقول، أي: هما حال تساومهما بالخيار ما لم يبرما العقد ويمضياه، فإذا أمضياه فقد افترقا ولزمهما العقد. قالوا: والبيع يطلق على السّوم أحيانا.

وجواب المخالف: أنّ إطلاق المتبايعين على المتساومين مجاز، والأصل في الكلام الحقيقة كما تقرّر.

ب‌) قوله r: (( لاَ يَنْكِحْ المحْرِمُ وَلاَ يُنْكِحْ )) [رواه مسلم وغيره].

هذا الحديث احتجّ به جمهور العلماء على أنّ المحرم يحرم عليه الزّواج والتّزويج. لكنّ الحنفية قالوا: المراد من النكاح هنا الوطء، فيحرم الوطء لا العقد.

وجواب الجمهور: أنّ إطلاق النّكاح على الوطء مجاز شرعيّ، وعلى العقد حقيقة شرعية، وحمل اللّفظ على حقيقته الشّرعية أولى.

ثمّ إنّه لا يمكن حمل لفظ ( النّكاح ) هنا على الوطء، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم قال بعد ذلك: ( ولا يُنْكِحْ )، ولا يُتصوّر ذلك إلاّ إذا حملناه على العقد.

ت‌) إذا قال الزّوج لزوجته:" أنت طالق "، ثمّ قال: إنّما أردت أنّها طالق من وِثاق، أي حرّة، لأنّ الطّلاق بمعنى الإطلاق، وهو حقيقة لغوية في الحلّ من وثاق ونحوه.

فالجواب: هذا اللّفظ له حقيقة عرفيّة، وهي: حلّ عصمة النّكاح، وهو مجاز في الوثاق، وحمل اللّفظ على حقيقته العرفية أولى.



[1]/ مع أنّه في اللّغة أوسع من ذلك، قال تعالى عن لحم السّمك:]وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا[.

[2]/ انظر"المستصفى"(1/325)،"الإحكام" للآمدي (1/21)،"روضة النّاظر"(2/8-22).

[3]/ من أعظم من تكلّم في بيان أنّ الكاف غير زائدة:عبد الله دراز في كتابه النّفيس "النّبأ العظيم" ص(132-135)،وقد أشار إلى ذلك الإمام الخوارزمي النحويّ قبله في كتابه "ترشيح العلل في شرح الجمل"ص(210)تحقيق عادل محسن سالم العميري.

0 التعليقات:

إرسال تعليق