الدّرس 10

الدّرس العاشر من شرح " نظم الورقات "

بَابُ الأَمْرِ

وفيه مباحث ثمانية:

- حدّه وصيغه - حكم صيغ الأمر - هل الأمر يقتضي الفور ؟ - هل الأمر يقتضي التّكرار ؟ - ما لا يتمّ الواجب إلاّ به - هل يقتضي فعل المأمور به الإجزاء أو لا ؟ - الأمر بالشّيء هل يقتضي النّهيَ عن ضدّه ؟ - الأمر بالأداء ليس أمرا بالقضاء ؟

1) حدّه وصيغه:

لغة: الأمر واحد " الأمور " ويراد به الشّأن، وواحد " الأوامر " ويراد به الطّلب[1].

اصطلاحا: هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء.

وعرّفه الناّظم رحمه الله تعالى بقوله:

وَحَدُّهُ اسْتِدُعَاءُ فِعْل واَجِبِ

بِالقَوْلِ مِمَّنْ كاَنَ دوُنَ الطاَّلِبِ

والتعريف المذكور أوّلُ أحسنُ لثلاثة أوجه:

* أوّلا: لأنّ قوله:" استدعاء فعل واجب " لا يدخل فيه المندوب، مع أنّ المندوب مأمور به.

* ثانيا: لأنّ قوله " بالقول " فيه نظر، فإنّ الأمر قد يفهم من الكتابة والإشارة. فمن الأمر بالكتابة " التّوراة "، فإنّ فيها أوامرَ كثيرةً اتّفاقا، مع أنّها أنزلت مكتوبة، ومن الأمر بالإشارة حديث ( فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا ) فجلس الصّحابة، ولو لم يكن أمرا لما امتثلوا.

* ثالثا: إنّ قوله:" ممّن كان دون الطّالب " ينبغي تقييده بقوله: حقيقةً أو حكما. فالمأمور يكون غالبا دون الطّالب، وقد يكون من هو دونه آمرا أحيانا في حالة التّهديد ونحوها، والعبارة الجامعة لهذين النوعين قولنا:" على وجه الاستعلاء".

* أماّ صيغ الأمر فهي:

1- لفظ الأمر: كقوله تعالى:]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا[.

2- فعل الأمر، نحو قوله تعالى:]اعْبُدوُا رَبَّكُمْ[.

3- اسم فعل الأمر، نحو قوله تعالى:]عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ[، وقول المؤذّن:" حيّ على الصّلاة ".

4- المضارع المقـترن بلام الأمر، نحو قوله تعالى:]لَيُنْفِقْ ذُو سّعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ[.

5- المصدر الّذي ناب عن فعله، نحو قوله تعالى:]فَإذاَ لَقـيْتُمُ الّذينَ كَفَروُا فَضَرْبَ الرِّقاّبِ[، وقوله:]فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ[.

6- وصف الفعل بأنّه فرض، أو واجب، أو مندوب، أو طاعة.

7- ترتيب الثّواب على الفعل، وترتيب العقاب على التّرك.

8- إن كنّى الشّارع عن شيء واجب بجزئه، فإنّه يدلّ على أن ذلك الجزء مأمور به وجوبا: كقوله تعالى:]اِرْكَعُوا واسْجُدوُا[، فهو دليل على ركنية الرّكوع والسّجود، وقوله تعالى:]مُحَلِّقينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ[ كناية عن العمرة، فدلّ على وجوب الحلق أو التّقصير.

9- أن يكنّي عن الجزء بكلّه الواجب، كقوله تعالى في الحديث القدسيّ: (( قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي))، فسمّى الفاتحة صلاة، فدلّ على وجوبها.

2) حكم صيغ الأمر:

هذا البحث ينطلق على صيغة الأمر المجرّدة من القرينة. فالجمهور على أنّ الأمر يقتضي الوجوب، ولا يصار إلى غيره إلاّ بقرينة، وأدلّة ذلك كثيرة، منها:

- قوله تعالى:]لاَ يَعْصوُنَ اللهَ ماَ أَمَرَهُمْ[، وقوله:]أَفعَصَيْتَ أَمْرِي[، وقوله:]وَلاَ أَعْصيِ لَكَ أَمْراً[، وتارك المأمور إذا كان عاصيا كان مستحقّا للعقاب، لقوله تعالى:]وَمَنْ يعْصِ اللهَ وَرَسـُولَهُ فٌّإنّ لَهُ ناَرَ جَهَنَّمَ[،وقال:]وَماَ كاَنَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذاَ قَضىَ اللهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكوُنَ لَهُمْ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم[.

- قوله r: (( لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلىَ أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّواكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ ))، فلو كان الأمر للنّدب لكان السّواك مندوبا، ولما كان في الأمر به مشقّة.

- إنّ الوجوب هو المتبادر إلى الذّهن من الأوامر المجرّدة عن القرائن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب " [" القواعد النّورانيّة " (ص 26)].

* والقرائن الصاّرفة للأمر عن الوجوب هي:

1 ـ النّص من الكتاب، أو السنّة:

- قوله تعالى:]ياَ أَيّها الذِين آمَنوُا إِذاَ تَداَيَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمَّى فَاكْتُبُوهُ[، هذه الآية فيها أمر بالكتابة مطلقا، لكنّ الآية التي بعدها أوضحت أنّ المتداينين إذا أمن بعضهما بعضا جاز ترك الكتابة فقال:]فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الّذيِ أؤتُمِنَ أَماَنَتَهُ[.

- قوله تعالى:]وَأَشْهِدوُا إِذاَ تَباَيَعْتُمْ[، فظاهر الأمر الوجوب، لكنّ الأمر للنّدب بدليل أنّ النبي r اشترى فرسا من أعرابيّ ولم يُشهد كما رواه أحمد وغيره عن خزيمة بن ثابت.

2 ـ اتفاق العلماء:

فالأمر قد يصرف عن الوجوب إذا لم يُعلم أنّ أحدا من أهل العلم قال بوجوبه.

مثال على ذلك قوله r: (( تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فيِ السَّحُورِ بَرَكَةً )) [رواه الشيخان عن أنس بن مالك].

فظاهر الأمر الوجوب، لكنّ أحدا من العلماء لم يقل بوجوبه فيما نعلم كما قال الحافظ في " الفتح "(4/139).

3 ـ الأمر بعد النّهي قد يفيد الاستحباب:

فإنّه من المقرّر أنّ الأمر بعد النّهي يعود إلى ما كان عليه قبل النّهي عنه، فربّما أفاد الإباحة – وهو الغالب –، وربّما أفاد الوجوب أو غيره.

ومن الأمثلة على ذلك:

- قوله تعالى:]وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطاَدوُا[، وقوله:]فَإِذا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فيِ الأَرْضِ[، وقوله:]فإذاَ تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللهُ[، فهذه أوامر تفيد الإباحة لأنّها وردت بعد النّهي عنها، وهي قبل النّهي كانت مباحة فعادت إليه.

- وقد يعود إلى الوجوب، كما في قوله تعالى:]فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ[ بعد قوله:]إِلاَّ الّذيِنَ عَاهَدْتُم مِنْ المُشْرِكِينَْ[.

قال النّاظم رحمه الله تعالى:

بِصِيغَةِ افْعَلْ فَالوُجوبُ حُقِّقاَ
لاَ مَعْ دَلِيلٍ دَلَّناَ شَرعاً عَلىَ
بَلْ صَرْفُهُ عَنِ الوُجوبِ حُتِما

حَيْثُ القَرِينَةُ انْتَفَتْ وَأَطْلِقاَ
إِباَحَةٍ فيِ الفِعْلِ أَوْ نَدْبٍ فَلاَ
بِحَمْلِهِ عَلىَ المُراَدِ مِنْهُماَ



[1]/ ولا بدّ أن نعلم أنّ كلمة ( أوامر ) لم ترد في لغة العرب جمعا للأمر، وإنّما هي جمعٌ لـ( آمر وآمرة ) أي: النّصوص الأوامر.

0 التعليقات:

إرسال تعليق