الدّرس 8

الدّرس الثّامن من شرح " نظم الورقات "

- الاستدلال ومراتب العلم:

قال رحمه الله:

( وَحَدُّ الاسْتِدْلاَلِ قُلْ: ماَ يَجْتَلِبْ لَناَ دليلا مرشِـدا لما طُلِـب )

فالاستدلال: هو طلب الدّليل.

والدّليل لغة: هو المرشد إلى المطلوب.

أماّ اصطلاحا: هو ( ما يتّوصّل بصحيح النّظر فيه إلى حكم شرعيّ على سبيل القطع أو الظّنّ ).

*فإن كان الدّليل قطعيّ الثبوت والدّلالة كان يَقِيناً.

*وإن كان غير ذلك: بأن كان قطعيّ الثبوت ظنيّ الدلالة، أو ظنيّ الثبوت قطعي الدلالة، أو كان ظني الثبوت ظني الدّلالة، كان ظَناًّ.

لذلك كانت مراتب العلم أربع:

1- أعلاها: اليقين، ويجب العمل به.

2- ثمّ الظنّ، وهو: تجويز راجح لأحد الأمرين، ويجب العمل به أيضا، فقد سمىّ الله تعالى الظنّ الرّاجح علما، فقال عزّ وجلّ:]فَإِنْ عَلِمْتُموُهنَّ مُؤْمِنَاتٍ[، ووجه الدّلالة من الآية أنّ المكلّف لا يمكن أن يقطع بإيمان غيره، فوجب حمل " العلم " هنا على الظنّ الرّاجح، ويسمّى أيضا غلبة الظنّ.

3- ثمّ الشّك وهو: تردّد الذّهن بين الظنّ والوهم، ويجب التوقّف عندئذ.

4- ثمّ الوهم وهو: تجويز مرجوح لأحد الأمرين، ولا يحلّ اتّباع الوهم، وهو الظنّ المذموم في الكتاب والسنّة.

وإلى ذلك كلّه أشار النّاظم رحمه الله بقوله:

وَالظَّنُّ تّجْوِيزُ امْرِئٍ أَمْرَيُنِ
فالراجح المذكور (ظنا) يسمى
والشك تحرير بلا رجحان

مرجحا لأحد الأمرين
والطرف المرجوح يسمى (وهما)
لواحد حيث استوى الأمران

* * *

ثمّ عاد رحمه الله إلى تعريف أصول الفقه باعتباره لقبا لفنّ معيّن فقال:

أّماَّ أُصوُلُ الفِقْهِ مَعْنىً بِالنَّظَرِ
فيِ ذاَكَ: طُرْقُ الفِقْهِ أَعنيِ المُجْمَله
وَكَيفَ يُسْتَدَلُّ بِالأُصوُلِ

لِلُفَنِّ فيِ تَعريِفِهِ فَالمُعُتَبَرْ
كالأَمْرِ أَوْ كَالنَّهْيِ لاَ المُفَصَّلَه
والعالِمُ الّذِي هُوَ الأُصوُليِ

تعريف علم الأصول:

( هو العلم بالأحكام الشّرعية العمليّة المستنبطة من أدلّتها الإجماليّة، وكيفية الاستفادة منها، وبيان حال المستفيد ).

ومن هذا التعريف يمكننا حصر أبواب أصول الفقه، وهي:

1) بيان الأحكام الشرعية: التّكليفيّة والوضعية، وهذا قد سبق بيانه.

2) بيان الأدلّة الإجمالية: كالقرآن، والسنّة، والإجماع، والقياس، الّتي أشار القرآن إليها في قوله عزّ وجلّ:]ياَ أَيُّهاَ الّذِينَ آمَنُوا أطيِعوُا اللهَ وأَطيِعوُا الرَّسُولَ وَأوَلي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَناَزَعْتُمْ فيِ شَيءٍ فَرُدُّوه إِلىَ اللهِ وَالرَّسُولِ[ ... الآية.

فطاعة الله هي: تطبيق أحكام الدّليل الإجمالي الأوّل، وهو القرآن.

وطاعة الرَّسول r هي: تطبيق أحكام الدّليل الإجمالي الثّاني، وهو السنّة.

وطاعة أولي الأمر: إشارة إلى إجماع أهل العلم والحلّ والعقد.

والردّ إلى الله ورسوله r هو: الردّ إلى الكتاب والسنّة عند الاختلاف وذلك هو القياس والنّظر الصّحيح.

ومن الأدلّة الإجمالية: الاستصحاب، ومذهب الصّحابيّ، وما هو مختلف في اعتباره دليلا كالمصالح، والعرف، وشرع من قبلنا[1].

ومن الأدلّة الإجمالية القواعد العامّة الكلّية، كقولهم: الأمر يقتضي الوجوب، فهذا ليس دليلا تفصيلياً، وإنّما هو دليل إجماليّ تندرج تحته كثير من الأدلّة التفصيلية.

3) الباب الثالث من أبواب أصول الفقه: كيفية الاستدلال، أو طرق الاستفادة من تلك الأدلّة الإجمالية والقواعد الكلّية، كمباحث الأمر، والنّهي، والعام، والخاص، ودلالات النّصوص، والتّعارض والتّرجيح، وغيرها.

4) الباب الرّابع وهو الأخير: هو بيان حال المستفيد وهو المجتهد، مع ذكر شروط الاجتهاد وشروط جواز التقليد.

وقد ذكر النّاظم رحمه الله أبواب أصول الفقه مفصّلة، فبلغت – كما قال – عشرين بابا فقال:

أَبْوابُها عشرون بابا تسرد
وتلكَ: أَقْساَمُ الكلامِ، ثمَّ
أو خُصَّ، أو مُبَيَّنٌ أو مُجْمَلُ
وَمُطْلَقُ الأَفْعاَلِ، ثُمَّ ماَ نَسَخْ
كَذَلِكَ الإِجْماَعُ والأَخْباَرُ مَعْ
كذاَ القِياَسُ مُطْلَقاً لِعِلَّه
وَالوَصْفُ فيِ مُفْتٍ وَمُسْتَفْتٍ عٌهِد

وفي الكِتاَبِ كلِّها ستوردُ
أَمْر ونهي ثمَّ لفظ عماَّ
أَوْ ظاَهِرٌ معناَهُ، أَوْ مُؤَوَّلُ
حُكْماً سِواَهُ، ثُمَّ ماَ بِهِ انْتَسَخْ
حَظْرٍ وَ مَعْ إِباَحَةٍ كُلُّ وَقَعْ
فيِ الأَصْلِ، والتَّرتيبُ للأَدِلَّهْ
وَهَكَذاَ أَحْكاَمُ كَلِّ مُجْتَهِدْ

وسيأتي تفصيل كل باب على حدة.

تنبيه:

قد ذكر النّاظم رحمه الله – كغيره من المصنّفين – أنّ من أبواب أصول الفقه " الكلام وأقسامه " كما سيأتي تفصيله، وفي ذلك نظر بيّن، فباب الكلام ليس من أصول الفقه في شيء، وإنّما هو من علوم اللّغة العربية.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله في مقدّمة كتابه " الموافقات ":

* " إنّ كلّ أصل يضاف إلى الفقه لا يبتني عليه فقه فليس بأصل له ".

* " كلّ مسألة لا ينبني عليها حكم شرعيّ، فالخوض فيها خوض فيما لم يدلّ على استحسانه دليل شرعيّ ".

* " كلّ مسألة مرسومة في أصول الففه لا ينبني عليها فروع فقهيّة، أو آداب شرعيّة، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعُها في أصول الفقه عاريّة ".

باب أقسام الكلام

اعلم أنّ الكلام ينقسم إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة.

1) أنواع الكلام من حيث تركيبه: وهذا من مباحث علم النّحو.

قال رحمه الله تعالى:

أََقَلُّ مَا مِنْهُ الكَلامَ رَكَّبُوا
كَذَاكَ مِنْ فِعْلٍ وَحَرْفٍ وُجِدَا

اِسْمَانِ أَوْ اِسْمٌ وَ فِعْلٌ كَارْكَبُوا
وَجَاءَ مِنْ اِسْمٍ وَحَرْفٍ فِي النِّدَا

أقلّ ما يتألّف منه كلام العرب اسمان نحو " زيد قائم "، ومن فعل واسم نحو " قام زيد ".

أمّا قول الإمام الجويني والناظم بأنّه يتألف من اسم وحرف، أو فعل وحرف، فهو بعيد عن الصّواب، ومثّل له الشرّاح بقولهم:" ما قام " في الحرف مع الفعل، وبقولهم: " يا زيد " في الحرف والاسم.

ولا يخفى أنّ قولنا:" ما قام " كلام مؤلف من حرف النّفي ( ما ) ومن الفعل ( قام ) ومن اسم هو ضمير مستتر في ( قام ).

وقولنا :" يا زيد " مؤّلف من فعل واسم، وهذا الفعل نابت عنه أداة النّداء، تقديره " أنادي " أو " أدعو " بدليل عدم جواز إظهار هذا الفعل معها.

2) أنواع الكلام من حيث أسلوبه: وهذا من مباحث علم المعاني في علم البلاغة.

وهو نوعان: خبر وإنشاء.

1) الخبر: اصطلاحا هو: ما يصحّ أن يدخله الصّدق والكذب لذاته.

ومعنى صدق الخبر: مطابقته للواقع.

ومعنى كذب الخبر: عدم مطابقته للواقع.

وقولنا:" لذاته " قيد تدخل به أخبار الله تعالى وأخبار رسوله r، فهي لذات الخبر وبغضّ النظر عن قائله يمكن أن تصدّق أو تكذّب، لكنّها كلّها صدق بالنظر لقائله.

الإنشاء: هو ما لا يحتمل الصّدق ولا الكذب.

وهو نوعان: طلبي وغير طلبي.

* فالطلبيّ: هو ما يستدعي مطلوبا غير حاصل في اعتقاد المتكلّم وقت الطّلب، فيشمل الأمر، والنّهي، والاستفهام، والتمنّي، والعرض، والحضّ، والدّعاء، والرّجاء، والنّداء.

* وغير الطلبي: هو ما لا يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب، ويشمل صيغ التعجّب، وصيغ المدح والذمّ، والقسم، وصيغ العقود.

ولم يُشِر النّاظم رحمه الله تعالى إلى هذا التفصيل والحصر، وإنّما اكتفى ببعض الأمور من ذلك،فقال: ( وَقُسِّمَ الكَلاَمُ لِلإخْبَارِ ). وهذا يريد به الخبر.

ثم قال: ( وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ والاسْتِخْبَارِ )الاستخبار:الاستفهام.

( ثُمَّ الكَلاَمُ ثَانِيًا قَدِ انْقَسَمْ ) وكان الأولى ألاّ يقول هذا، لأنّ ما سيذكره بقوله: ( إلَى تَمَنٍّ وَلِعَرْضٍ وَقَسَمْ ) هو من جملة الأسلوب الإنشائي كما هو مقرّر.



[1]/ هذا نقوله تجوّزا، وإلاّ فإنّه لم يختلف السّلف في الاحتجاج بشرع من قبلنا إذا لم يرد ما يعارضه من شرعنا.

0 التعليقات:

إرسال تعليق