الدّرس 6

الدّرس السّادس من شرح " نظم الورقات "

أقسام الإباحة:

الإباحة نوعان: إباحة شرعيّة، وإباحة عقليّة.

1- الإباحة الشّرعية: وهي لا تثبت إلاّ بخطاب شرعيّ رافع لخطاب شرعي متراخٍ عنه، وهو المعروف بالنّسخ إلى الإباحة، وسيأتي تفصيله في بابه.

2- الإباحة العقلية: وهي الثابتة بالبراءة الأصلية، وسيأتي بيانها في باب الاستصحاب.

تنبيه: أُقحم المباح ضمن الأحكام التكليفية، مع أنّه ليس في فعله أو تركه كلفة، فأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، منها:

الأوّل: إنّه أُقحم تغليبا وإتماما للقسمة العقلية،لأنّ الشيء يدور بين طلبه بإلزام أو لا، أو النهي عنه بإلزام أو لا، أو إباحة دون ترجيح.

الثاني: اعتُبر حكما تكليفيا لأنّ المكلّف عليه أن يعتقد إباحته، ولو اعتقد حرمته لكان آثما.

الثّالث: اعتُبِر حكما تكليفيّا لأنّه من أفعال المكلّف، فهي نسبة ليس غير، والله أعلم.

( تتمّة ):

ذهب الحنفية إلى أنّ الأحكام التكليفية سبعة، فأضافوا حكمين: " الفرض " الذي هو مرادف للواجب عند الجمهور، و" الكراهة التحريمية " التي هي مرادفة للحرام عند الجمهور.

وقالوا:إنّ الفرق بين الفرض والواجب، وبين الحرام والكراهة التحريمية، من وجهين:

* الوجه الأول: هو أنّ الفرض والحرام ما ثبت بالدّليل القطعيّ، والواجب والمكروه كراهةً تحريميّة ما ثبت بالدّليل الظنيّ.

* الوجه الثاني: هو أنّ مُنكِر الفرض ومستحِّل الحرام يكفر، بخلاف منكر الواجب ومستحلّ المكروه كراهة تحريمية، فإنّه لا يكفر.

والصّحيح أنّه لا فرق بين ما ذكروه، وإنّ واقع الصّحابة والتابعين خلاف ما قرّره الحنفية، فقد جاء في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنّسائي وابن ماجه عن أبي محيريز أنّ رجلا من بني كنانة يدعى المخْدِجِيّ سمع رجلا بالشام يدعى أبا محمد يقول: إنّ الوتر واجب، قال المخدجيّ: فرُحت إلى عبادة بن الصاّمت فأخبرته، فقال عبادة:كذب أبو محمد، سمعت رسول الله r يقول:

(( خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ – وفي رواية: كَتَبَهُنَّ اللهُ- تَعَالَى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ، وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ )).

ووجه الدلالة أنّ عبادة بن الصاّمت قابل لفظ أبي محمد " واجب " بلفظ النبيّ r ( افْتَرَضَهُنَّ ) و( كَتَبَهُنَّ )، ولم يفرّق بينهما.

وعلى كلّ حال؛ فإنّ الجمهور والحنفية متفقون على أنّ الواجب والمحرّم قد يكون دليل كلّ منهما قطعيّا وقد يكون ظنيا، وأنّ الأوّل يكفر منكره بخلاف الثاني، فالخلاف إذن لفظي يرجع إلى الدّليل التفصيلي الذي يثبت به الحكم فيكون اعتبارا فقهيا فحسب [انظر " المستصفى " (1/66)، و"سلّم الوصول" للمطيعي 1/76].

هذا نهاية الكلام عن الأحكام التكليفية، وسيتضح لنا في مباحث الأمر والنّهي صيغ الدلالة على كلّ حكم شرعي إن شاء الله، والغرض الآن ذكر الأحكام الوضعية.


الحُكْمُ الوَضْعِي:

سبق تعريف الحكم لغة واصطلاح

أمّا الوضع لغة فهو ضدّ الرّفع.

والحكم الوضعي اصطلاحا هو: ( العلامة الشّرعية الّتي يثبت عندها الحكم أو ينتفي ).

فالصحّة – مثلا – علامة على الإجزاء، والفساد علامة على عدم الإجزاء.

والحكم الوضعيّ خمسة أحكام كذلك: الصحّة، والفساد، والشّرط، والسّبب، والمانع.

والنّاظم رحمه الله لم يذكر منها إلاّ الصحّة والفساد.

1- الصـحّة: والفعل المتّصف بها يسمّى ( صحيحا ).

* والصّحيح لغة: هو السّليم البريء من العيب، أو قل: ضدّ السّقيم.

واصطلاحا: هو ما يتعلق به نفوذ واعتداد، كما قال الناظم رحمه الله:

وَضاَبِطُ الصَّحِيحِ : ماَ تَعَلَّقاَ

بِهِ نُفُوذٌ وَاعْتِداَدٌ مُطْلَقاً

- ومعنى قوله: ( مطلقا ): أي: سواء كان الفعل من العبادات أو العادات، فإنّه يوصف بالصحّة، وإلى ذلك أشار بقوله قبل ذلك:

( معَ الصَّحِيـحِ مُـطْـلَـقـاً والفـاسـدِ مِنْ قاَعِــــــدٍ هَذاَنِ أوْ مِـنْ عاَبِــــدِ )

فقوله: ( العاقد ): إشارة إلى المعاملات، وقوله: ( العابد ): إشارة إلى العبادات.

والمعاملات تتّصف بالنفوذ والاعتداد، والعبادات تتصف اصطلاحا بالاعتداد فحسب، فيقال: " هذا بيع صحيح " أي: نافذ ومعتدّ به شرعا. و" هذه صلاة صحيحة " أي: يعتدّ بها شرعا، ولا يقال: تنفذ.

وقد عرّف كثير من العلماء الصّحيحَ بقولهم:" هو ما ترتّب عليه أثره، وحصل به مقصوده "[" مجموع الفتاوى " (2/416)].

وتوضيح ذلك أنّ أفعال المكلّف إذا وقعت مستوفيةً أركانَها وشروطَها يُحكم بصحّتها، فيترتّب على الفعل أثره من إجزاء وقبول، ويحصل به مقصوده من المنافع.

فالعبادة الصّحيحة هي ما كانت مجزئةً مسقطةً للواجب.

والنّكاح الصّحيح هو ما كان مجزئا يترتب عليه أثره من بنوّة وإرث ونفقة، ويحصل به مقصوده وهو حلّ الاستمتاع.

والبيع الصّحيح هو ما كان يترتّب عليه أثره من حصول الملك والضّمان، ويحصل به مقصوده وهو حلّ الانتفاع.

2- الفساد: والفعل المتّصف به يسمّى ( فاسدا ).

والفاسد لغة: هو الذّاهب ضياعا، أو قل: هو ضدّ الصّحيح أي: السقيم.

واصطلاحا هو: ما لا يتعلّق به نفوذ واعتداد، كما قال الناظم:

وَالفاسِدُ الَّذِي بِهِ لَمْ تَعتَْدِدِْ

وَلَمْ يَكُنْ بِنَافِذٍ إِذَا عُقِدْ

فهو ما لا يترتب عليه أثره ولا يحصل به مقصوده.

فالعبادة الّتي لم تستوفِ الشّروط والأركان لا يترتّب عليها الإجزاء، فيبقَى مطالبا بها، ولا يحصل بها مقصودها من الثّواب.

والنّكاح الّذي لم يستوفِ أركانه وشروطه لا يترتّب عليه أثره من لحاق الابن به، ووجوب النّفقة، واستحقاق الإرث، ونحو ذلك. كما أنّه لا يحصل به مقصوده وهو حلّ الاستمتاع.

( مسألتان ).

المسألة الأولى: لا تلازم بين الصحّة والقبول.

والصحّة هي: الإجزاء، والقبول: هو الثّواب.



.

وهما يجتمعان في الغالب.

وقد يفترقان لاختلاط الفعل الذي استوفى أركانه وشروطه بمعصية، تكون تلك المعصية مكافئةً للثّواب أو أعظم منه، فحينها تصحّ العبادة، ولا تقبل عند الله.

وبهذا ندرك فقه الأحاديث الّتي تنفي قبول صلاة معيّنة، كصلاة شارب الخمر مثلاً، فقد جاء الحديث بأنّها لا تقبل أربعين يوما، وكذلك لا تقبل صلاة العبد الآبق والمرأة النّاشز والإمام الظّالم، فهذا لا يعني أنّهم لا يخاطبون بالصّلاة، بل تجب عليهم الصّلاة، ولا يعيدونها، لأنّها صحيحة، لكنّ الثواب منتف عقابا لهم على المعصية، والله تعالى أعلم.

المسألة الثّانية: الفاسد والباطل مترادفان.

الفاسد هو الباطل عند جمهور العلماء.

ولكنّ الحنفيّة فرّقوا بينهما فقالوا: إنّ الباطل هو ما كان النّهي عنه لذاته، والفاسد هو ما كان النهي عنه لوصف قائم به. لذلك اشتهر عنهم قولهم: الفاسد هو ما كان مشروعا بأصله لا بوصفه، والباطل ما كان غير مشروع لا بأصله ولا بوصفه.

والظّاهر - والله أعلم - حسب فروع الحنفية، أنّهم ما فرّقوا بينهما إلاّ لاختلاف دليل كلّ نهي، فما ثبت عندهم بدليل قطعي أنّه منهي عنه قالوا ببطلانه، وما ثبت عندهم النّهي عنه بدليل ظنيّ قالوا بفساده.

والجمهور لا يفرّقون بين الفاسد والباطل إلاّ في مسألتين:

الأولى: في الحجّ : فقالوا: الباطل ما لا يمكن جبرُه بدم، كمن جامع أهله قبل التحلّل الأوّل. أمّا الفاسد فما يمكن جبره بدم، كمن جامع أهله بعد التحلّل الأوّل.

الثّانية: في النّكاح: فقالوا: النّكاح المتّفق على عدم جوازه باطل، كنكاح المحارم، ونكاح المشركة. فلا توارث بينهما ولا يترتب عليه بنوّة.

وأمّا النّكاح الفاسد فهو ما كان مختلفا في جوازه، كنكاح الشِّغار، ونكاح المحرِم، والنّكاح بلا وليّ، فحكموا بتوريث أحد الزّوجين إذا توفّي الآخر قبل فسخ العقد، وحكموا كذلك بثبوت النبّوّة لهما إذا عَلِق الولد قبل الفسخ.

والله أعلم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق