الدّرس 5

الدّرس الخامس من شرح " نظم الورقات "

تتمّة في ( المندوب ).

* المسألة الثّانية: هل يلزم المندوب بالشّروع فيه ؟

اعلم أنّ الواجب العيني والكفائي يلزمان بالشّروع فيهما مطلقا. فمن شرع في أداء صلاة الفريضة أو صلاة الجنازة وجب عليه إتمامها.

أمّا المندوب فلا يلزم بالشّروع فيه عند جمهور العلماء، ويجوز له الانصراف منه.

ووجه ذلك انّه لا يأثم بتركه كلّه، فلا يأثم بترك بعضه.

وقالت الحنفيّة: يلزم المندوب بالشّروع فيه مطلقا، واستدلواّ بقوله تعالى:]وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[.

وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ الآية فسّرها السّلف بالرّدة، أي: لا ترتدوّا؛ فتبطل أعمالكم، أو لا تُبطِلوها بالسيّئة المحبِطة للأعمال، كالرّياء، والمنّ، ونحو ذلك، وليس المقصود الخروج منها.

ومع ذلك، فإنّ الانصراف من عبادة شُرِع فيها خلاف الأولى، إلاّ لغرض صحيح، كضرورة، أو عمل أفضل، مثل إقامة صلاة مكتوبة.

( فائدة ):

ويستثنى من هذه القاعدة الحجّ والعمرة النّافلتان، والجهاد إذا حضر الصفّ. فهذه الأمور تجب بمجرّد الشّروع فيها.

أمّا الجهاد فلقوله تعالى:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)[ [الأنفال].

وأمّا الحجّ والعمرة النّافلتان فلقوله تعالى:]وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَ العُمْرَةَ لِلَّهِ[، ووجه الدّلالة أنّ الآية نزلت قبل فرض الحجّ وذلك سنة 6 هـ في صلح الحديبية، وإنّما فرض الحجّ العام التّاسع أو العاشر على الصّحيح، فأمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة مع كونهما يومئذ تطوّعا.

(3)- المكروه: الحكم الثّالث الكراهة.

المكروه لغة: هو اسم مفعول من كره، وهو ضدّ المحبوب.

واصطلاحا: هو طلب التّرك من غير إلزام، أي: ما طلب الشارع الكفّ عنه طلبا غير جازم.

فخرج بقولنا:" طلب الترك ": الواجب والمندوب.

وخرج بقولنا:" من غير إلزام ": المحرّم فإنّه بإلزام.

والمباح لم يدخل في الحدّ كما مرّ.

وحكمه: يثاب تاركه امتثالا، ولا يعاقب فاعله.

( مسألة ):

كثيرا ما يطلق لفظ ( الكراهة ) في الكتاب والسنّة وكلام السّلف، ويُقصَد بها التّحريم، ومنه قوله تعالى:]كُلُّ ذَلِكِ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً[، وقوله تعالى:]وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الكُفْرَ وَالفُسوُقَ وَالعِصْياَنَ[؛ فلا ينبغي لأحد أن يحمل لفظ الكراهة عند السلف على المعنى الاصطلاحي إلاّ بدليل. [انظر كلام ابن تيمية رحمه الله في" المجموع " (1/345)، و" أعلام الموقّعين " (1/48-52)].

(4)- الحرام: الحكم الرّابع هو: التّحريم.

الحرام لغة: اسم مصدر أطلق على المحرّم، أي: الممنوع، أو هو:" ما لا يحلّ انتهاكه ".[" المصباح المنير "، و" مذكّرة الشّنقيطي " (ص 22)].


أمّا اصطلاحا فهو طلب التّرك على وجه الإلزام، أي: ما طلب الشّارع تركَه تركا جازما.

فخرج بقولنا: "ما طلب الشارع تركه": الواجب والمندوب.

وخرج بقولنا: " على وجه الإلزام ": المكروه.

أمّا المباح فلم يدخل في الحدّ.

وحكمه: يثاب تاركه امتثالا، ويستحقّ فاعله العقاب.

وبعبارة ( امتثالا ) و( يستحق ) احترزنا عمّا احترزنا منه في حدّ الواجب؛ وذلك لأنّ تارك الحرام له حالات ثلاث:

- الحالة الأولى: أن يكون همَّ بفعل الحرام، فتذكّر الله، فترك ذلك لله، فهذا يثاب للحديث القدسي الصّحيح: (( ومَنْ همّ بِسَيِّئَةٍ وَ لَمْ يَفْعَلْهاَ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً )).[متّفق عليه عن ابن عبّاس t] وفي رواية لهما عن أبي هريرة t: (( وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً )).

- الحالة الثّانية: أن يتمنىّ المحرّم، وفي نيّته لو تمكنّ منه لفعله، ولم يباشر أسبابه، فهذا يعاقب لهذا التّمنيّ، فإنّه لو تمكّن من اتخاذ الأسباب لسعى.

والدّليل على ذلك حديث التّرمذي عن أبي كبشة الأنماريّ t عن النبيّ r قال:

(( إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ:

عَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، ويَعلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ.

وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُـوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَواءٌ.

وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً، وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْماً، يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّـهُ، وَلاَ يَصِـلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقاًّ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ.

وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً، فَهُـو يُقُولُ: لَـوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ )).

- الحالة الثّالثة: أن يهمّ بالحرام ويسعى في أسبابه، لكنّه عجز عن الفعل، فهذا يعاقب عقاب الفاعل، بدليل حديث: (( إِذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسَيفَيهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتوُلُ فيِ الناَّرِ ))، قالوا: يا رسول الله ! هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال: (( إِنَّهُ كاَنَ حَريِصاً علىَ قَتْلِ صاَحِبِهِ )) [متفق عليه من حديث أبي بكرة t].

فهذا التفصيل يفسّر لنا معنى قول العلماء في حكم الحرام " يثاب تاركه امتثالا "، وستأتي بعض المسائل المتعلّقة بالحرام في باب النّهي.

5)- المُـبَـاحُ:

الحكم الخامس وهو الأخير من الأحكام التكليفية: الإباحة.

والمباح لغة: المعلن والمأذون، أي أعلنه صاحبه، من قولهم: باح بسرّه أي أعلنه. وهو مأخوذ من " الباحة " وهي الساحة الواسعة. والعلاقة واضحة بين تعريفه اللغوي وتعريفه الاصطلاحي، فهو ما يسع المكلّف فعله.

اصطلاحا: ما لا يتعلّق به أمر ولا نهي لذاته.

وقولهم:" لذاته " احتراز من الفعل المباح يكون وسيلة إلى واجب أو محرّم أو مندوب أو مكروه، فإنّه حينئذ يكون واجبا أو مستحبّا أو محرّما أو مكروها لغيره لا لذاته.

وكثير من العلماء يعرّف المباح بأنّه ( ما خيّر الشارع بين فعله وتركه )، إلاّ أنّه يرد عليه الواجب المخيّر، فإنّ المكلّف مخيّر بين أحد الأفعال فيه، كالتخيير بين الإطعام والكسوة والعتق في كفاّرة اليمين.


وحكم المباح لا يثاب فاعله ولا يعاقب كما قال الناظم رحمه الله.


0 التعليقات:

إرسال تعليق