الصلاة منهاة عن السوء (2)

ملخص الخطبة

1- أسباب التأثر بالصلاة. 2- محبة الصلاة والمسجد. 3- الطمأنينة في الصلاة. 4- الخشوع في الصلاة. 5- ذكر الموت. 6- خشوع الصالحين.


الخطبة الأولى

أما بعد: فإننا قد شرعنا معكم في الحديث عن ثمرات الصلاة الزكية، وعن دررها البهية، وكان أول ثمراتها ظهورًا أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، لأنها نور الله الذي أودعه في قلب المؤمن، وقد ذكرنا في ثنايا حديثنا أنه مهما يكن من عيب في المصلين فهو في غيرهم أضعاف مضاعفة، والفرق بينهما أن المصلي ستنهاه صلاته حتمًا عن السوء شيئًا فشيئًا، ويبقى تارك الصلاة يتخبط في ظلمات الهوى والغي والضلال، كذلك الرجل الذي كان يبيت الليل يصلي ثم يصبح فيسرق فقال عنه رسول الله : ((ستنهاه صلاته)).

فلا تترك ما تستطيع للعجز عمّا لا تستطيع، فالميسور لا يسقط بالمعسور، ولقد صدق القائل حين قال:

اصنع الخير ما استطعت وإن كنت لا تحيط بكلّـه

فمتى تصـنـع الكثـير إذا كنت تاركًـا لأقلِّـه

فما الأسباب التي تجعل الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟

رأينا أولها: الصلاة في الوقت.

واليوم نعرج على ذكر ثلاثة أسباب أخرى، فنقول: السبب الثاني الذي تحسن به صلاتك "حب الصلاة".

أحبّ هذه العبادة العظيمة حبًا يملأ عليك حياتك وقلبك وجوارحك كلها، حتىّ تشعر أن الحياة بلا صلاة كجسد بلا روح، وأنّ الدنيا لولا الصّلاة لا تساوي جناح بعوضة، حتى تشعر بضرورة الصلاة كضرورة الماء للنبّات، كيف لا؟! والصلاة هي الصلة بينك وبين الله، هي المناجاة لرب العالمين، هي الحديث مع خالق الناس أجمعين. أقول ذلك لأن الذي يصلي وهو لا يستشعر حلاوة هذه العبادة فستثقل عليه حتمًا، ويكون شبيهًا بالمكره الذي يفعل الشيء وهو لا يريده، ومن المعلوم لدى الخاص والعام أنّ يمين وعقد المكره لا ينعقد ولا يصحّ.

انظر إلى أولئك السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله تجد منهم رجلاً تعلق قلبه بالمساجد، تعلق أي: صار ذا عُلقةٍ بالمسجد، فلا يرتاح إلا فيه، لا ينتهي من صلاة حتى يشتاق ويحنّ إلى الصلاة الأخرى، لا يرضى بفراق الله طرفة عين، فلا يلبث حتى يقوم ويتطوع بركعات لله، فالصلاة خير موضوع كما قال : ((الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)).

وإذا حلّت الهداية في البدن نشطت في العبادة الأعضاء

ها هو محمد رسول الله يقول: ((جعلت قرّة عيني في الصلاة))، أي: لا أشعر بأي فرح وجذل وسرور مثل ما أشعر به في الصلاة، فكان يقول لبلال: ((أقم الصلاة أرِحنا بها))، فيقيم بلالٌ الصلاة، ويكبر النبي وأصحابه تكبيرة الإحرام، فلا يرجى لهم خروج منها، يطيلون القيام والركوع والسجود، ولولا خشية المشقة على الناس لما رضوا بالانصراف منها، لماذا؟ إنه الله، إنه الله رب الأرض والسماء.

ووالله لو طهرت قلوبنا ما شبعت من الصلاة والأنس بذكر الله، وهل يشبع الحبيب من مجالسة الحبيب؟! ولكن عندما أحببنا غيره تعالى، عندما أحببنا الأموال والأولاد واللهو والعبث هانت الصلاة علينا وثقلت على ظهورنا، فصرنا نؤديها أداء مجرّدًا عن كل حبّ وتعظيم، وكأننا نقول: أرحنا منها يا بلال.

فما هي النتيجة؟ النتيجة هي: "كم من مصلٍّ لا يصلي"، فكيف يرجو الشفاء من صلاة لا يحبها.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكهـا إن السفينة لا تجري على اليبس

فيجب علينا ـ عباد الله ـ أن نستيقظ من هذه الغفلة، وأن ندرك حلاوة هذه العبادة كما أدركها خير القرون، فقد سئل أحدهم عن قيام الليل فقال: "إقبال الليل عند المحبين كقميص يوسف في أجفان يعقوب"، وسئل آخر عن سر الحلاوة التي يجدها في صلاة الليل فقال: "هان سهر الحراس لما علموا أن أصواتهم بمسمع الملك"، وسئل الحسن عن التعب الذي يجده في كثرة صلاته فقال له أحدهم: إلام تتعبُ نفسك؟ قال: "راحتها أريد".

هذا سبب عظيم إذا حققته ـ أيها الأخ الكريم ـ فزت بثمرات الصلاة.

والسبب الثالث الذي تحسن به صلاتك هو موافقتها لصلاة رسول الله ، وذلك بمراجعة باب الصلاة في كتب الأحاديث والفقه، فإنه بذلك يشعر بحلاوة الاتباع، ويذوق طعم هدي رسول الله القائل: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فيلتزم ما التزمه النبي ، ويترك ما يتركه النبي ، فهو يتبع خطوات رسول الله في صلاته، فخير الهدي هدي محمد ، وقد روى النسائي عن أبي أيوب مرفوعًا: ((من توضأ كما أُمِر وصلّى كما أُمِر غفر له ما تقدم من ذنبه)).

وأعظم ركن أذكركم به ـ إخوتي الكرام ـ هو الطُّمأنينة في جميع أركان الصلاة، فإياك أن تنتقل من الركوع إلى غيره قبل أن يستقرّ كلّ عظم في موضعه، فلو رفعت رأسك من الركوع قبل أن تمكن نفسك من الركوع جيدًا فالصلاة غير صحيحة، وكذلك لو رفعت رأسك من السجود قبل أن تمكن جبهتك من الأرض وبقيت ساجدًا بمقدار ما يعود كل عظم إلى موضعه فالصلاة لم تصح لقوله وقد رأى رجلاً لا يتم الركوع ولا السجود ولا القيام، قال له: ((ارجع فصلّ فإنك لم تصل)).

وأذكركم بتلكم الفأرة التي رأت جملاً فأعجبها فأمسكته من عِقاله وقال لها: "إما أن تتخذي صديقًا يليق بدارك، أو تتخذي دارًا تليق بصديقك"، فكذلكم العبد إمّا أن يتخذ صلاة تليق بربه، أو يتخذ ربًّا يليق بصلاته.



الخطبة الثانية

أما بعد: فمن الأسباب التي تجعل الصلاة تؤتي أكلها وتنفع صاحبها الخشوع.

الخشوع هو حضور القلب مع الله، قال تعالى: لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ [الحج:37]، فإن النطق والحركات إذا لم يكن معها حضور القلب كان كل ذلك بمنزلة الهذيان. قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ [المؤمنون:1، 2].

فينبغي للمسلم أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة، فإذا سمع نداء المؤذن يتذكر النداء ليوم القيامة فيشمر للإجابة، ولينظر من الذي يناديه، ولينظر كيف يحضر إليه. وهو يلبس ثياب الصلاة ليستر عورته الظاهرة فليتذكر عوراته الباطنة التي لا يطلع عليها سوى الله عز وجل، وإذا استقبل القبلة فليعلم أن وجهه صار تجاه الله تعالى فيسحن الوقوف بين يديه تعالى. فإذا كبّرت ـ أيها المصلي ـ فلا تجعل قلبك يكذّب لسانك، فبقولك: "الله أكبر" أعلنت العبودية الكاملة لله تعالى، فهو أكبر من الدينار وأكبر في الدرهم وأكبر من الأولاد وأكبر من كل شيء. ثم إذا استعذت بالله فتصور نفسك محتميًا بالله مستعينا به فارًا إليه من الشيطان الرجيم، فإنك إن لم تلتجئ بقلبك كان لغوًا في حق ربك. وهكذا تتدبر معاني ما تتلوه من القرآن الكريم، تستحضر نعمه وأنت تقول: ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ، وتستحضر لطفه وكرمه وأنت تقول: ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ، وتستحضر عظمته وأنت تقول: مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ.

ومن أهم أسباب الخشوع في الصلاة كذلك ذكر الموت، فعن أنس مرفوعًا: ((اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لجديرٌ أن يحسن صلاته، وصلّ صلاة رجل لا يظن أنه سيصلي صلاة غيرها)).

صدق رسول الله ، فإن للموت لرهبة، وإن لذكره لهيبة، فهو خاتمة الأعمال، وما بعده أشد رهبة. تذكر وتصور أنها آخر صلاة لديك في هذه الدنيا، وتصوّر نفسك على فراش الموت تودع الأحباب والأصحاب، توصي الوصية وتعيد الحقوق لأصحابها، ولا تجد شيئًا تجود به إلا دموعًا تعلن بها فقرك إلى الله.

لقد كان يصلي ولجوفه أزيز ـ بكاء ـ كأزيز المرجل وهي القدر إذا غلت.

وعن عبد الله الثقفي قال: ولقد كان أبو بكر لا يكاد يسمع الناس قراءته في الصلاة من البكاء.

ولقد كان عمر يسمع نشيجه وبكاؤه من آخر الصفوف، روى البخاري عن عبد الله بن شداد قال: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ٱللَّهِ [يوسف:86].

وكان عبد الله بن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكأن يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط.

وكان علي بن الحسين إذا توضأ اصفرّ لونه فقيل له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فقال: ألا تدرون بين يدي من أقوم؟!

وقال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتًا في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد يصلي وما التفت، وكان أهل بيته إذا دخل المنزل سكتوا، فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.

رزقنا الله حلاوة الصلاة وطلاوتها، فها هي الأسباب بين أيديكم التي إن توفرت حُق للمسلم أن يقول: "صليت"؛ مراعاة الوقت، وحب الصلاة، وموافقتها لصلاة النبي ، والخشوع الذي هو لب العبادات جميعها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه

0 التعليقات:

إرسال تعليق