التبرج وغض البصر (3)

ملخص الخطبة

1- الإسلام يحرم الفواحش وأسبابها. 2- الحجاب حصن للمسلمة يبعدها عن مظنة الرذيلة. 3- غض البصر حصن للمسلم والمسلمة وهو وسيلة حفظ الفرج. 4- نظرة الفجأة. 5- النظرة أول سهام إبليس.


الخطبة الأولى

أما بعد: أيها الناس، فإن الله تعالى قد من علينا بنعمة هي أكبر وأجل نعمة على الإطلاق، ألا وهي نعمة الإسلام، فقال عز وجل: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، هذا الدين الحنيف الذي شرعه الله تبارك وتعالى من أعظم مقاصده وأهداف أوامره ونواهيه الحفاظ على الأعراض والأنساب، لذلك حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ورتب على فعلها حدودًا رادعة وعقوبات زاجرة، كعقوبة الزنا واللواط وغيرهما، لأن مفاسد الفواحش من أعظم المفاسد، وفيها خراب لا يعلمه إلا العزيز الوهاب، بل إن الله عز وجل بالغ في تحريم الزنا حتى قرنه بالشرك وقتل النفس بغير حق، قال الله عز وجل: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان:68]، كذلك قرنه رسول الله بهما عندما سئل عن أكبر الكبائر فقال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك))، فقيل له: ثم أي؟ فقال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك))، ثم قيل: ثم أي؟ فقال: ((أن تزاني حليلة جارك)) رواه البخاري ومسلم، كذلك قرن الزنا بالشرك وقتل النفس في العقوبة، فقال : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) رواه البخاري ومسلم. ووصف الله عز وجل الزنا بالفحش فقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، والفاحشة هي القبيح الذي تناهى في القبح، حتى عُلم قبحه وفحشه عند جميع الناس، بل إن الزنا عُلم فحشه حتى عند الحيوانات، فقد روى البخاري عن عمرو بن ميمون الأودي قال: رأيت في الجاهلية قردًا زنى بقردة، فاجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا.

وتأملوا ـ عباد الله ـ قوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ، نهانا عن القرب وهو اتباع خطوات الشيطان الرجيم الداعي إلى ذلك، فلنعلم أن أعظم سد وضعه الله تعالى أمام خطوات الشيطان الرجيم وأعظم الحصون هو الحجاب. إن المرأة المتحجبة في بيتها والتي إن خرجت خرجت بجلبابها العريض الفضفاض الساتر لجميع بدنها من أعظم الحسرات على إبليس وجنوده من الإنس، فإن الرجل مهما كان طاغية في الفجور فإنه لا سبيل له إلى أن ينظر إليها، بل يقال له: ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4].

أما إذا خرجت كما لو لم يكن هناك أمر من ربها بالتستر، أو أهل يأمرونها بالحياء، فحينها تكون هي من جملة جند إبليس، وتتقرب إليه بمحاربة رب العالمين، فما العمل إذن؟ ما العمل إذا لم يمتثل الناس لأمر الله؟ ما المخرج إذا لم يفقه المسلمون المقصد في تحريم الزنا؟

- الحصن الثاني: غض البصر، علامة أهل الإيمان، ووصية من وصايا الرحمن الذي قال: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، وقدم الله غض البصر على حفظ الفرج لأن غض البصر وسيلة لحفظ الفرج، فلا يعلم منفذ للشيطان ومدخل له مثل البصر، فهو سهمه الفتاك، ووسيلة الهلاك، ومتى فرط العبد في هذا الحصن ولم يرابط عليه دخله العدو الرجيم فجاس خلال الديار وتبر ما علا تتبيرا.

قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـٰرِهِمْ، فإذا علم العبد أو أحس أن هناك ما يبدو من زينة المرأة فلا يلق بصره نحوه، وإذا فاجأه نظره بالوقوع على ما لا يحل له فلا يتبعه بصره، هذا هو الرباط، هذا هو جهاد النفس لمن أراد صلاح قلبه وإرضاء ربه، أما أن تتعمد النظر فاعلم أن ذلك هو حظك من الزنا والعياذ بالله، فقد قال رسول الله : ((العينان تزنيان وزناهما النظر)) متفق عليه، وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)) رواه الترمذي. كما يجب علينا أن نعلم كذلك أن البصر يجب غضه عن الصور الفاضحة أيضًا، فكثير من الناس يعلم ذلك، لكنه إذا استقبل قبلة التلفاز الملعون غفل عن أمر الله تعالى وشاهد ما لا يحل له.

فإن قال قائل: ما بال هذا الإمام؟ أين يعيش هذا الإمام؟ هل يعقل مثل هذا الكلام؟ هل كلامه هذا يمكن في واقع هذه الأيام؟ لقد عم الفساد، وطم المنكر والإلحاد، ولا يمكن في هذه الأزمنة غض البصر، بعد أن فشا المنكر وانتشر.

فنقول وبالله التوفيق: قبل الإجابة عن هذا يجب أن نوضح أمرين اثنين:

الأول: اتفق عليه علماء الإسلام، ألا وهو أن ما كلفنا الله به من تكاليف ممكن كله، ولم يكلفنا قط بشيء لا نقدر عليه، يقول الله عز وجل: لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فهو شاق، نعم، ولكنه ممكن، لم يبق عليك ـ أيها المسلم ـ إلا أن تتذكر ما أعده الله تعالى لعباده المتقين الصابرين الذين يؤثرون ما عند الله على متاع الدنيا الزائل ونعيمها الحائل، ما عليك إلا أن تتذكر أنك في عهد الغربة، الذي بشر الله الصابرين فيه بالنعيم المقيم والجزاء الكريم، نزلاً من غفور رحيم.

الأمر الثاني: يجب أن ننظر إلى صاحب هذه المقولة، من هو؟ أخشى ما أخشاه أن يكون من الذين يتخذون الطرقات مجالس، وهذه الظاهرة من أقبح ما ابتلي به مجتمعنا اليوم، وهي ظاهرة منتشرة في هذا البلد بكثرة، فإن كنت منهم فاعلم أن النبي قال: ((إياكم والجلوس على الطرقات))، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: ((فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها))، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر))، إذن فلتعلم أنك إن لم تف بهذه الحقوق فقد عصيت ربك وأهلكت قلبك وأعظمت ذنبك.

ثم لنعلم أن هذه الأحكام إن لم تعن على ترك المنكر كلية فهي لا ريب تخففه، أما أن تستسلم للواقع المرّ فهذا ليس من الإيمان في شيء.



الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه وعلى جزيل نعمه ووافر امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى سبيله ورضوانه، اللهم صل عليه وسلم وبارك وعلى أصحابه وآله، وعلى كل من اتبع سبيله وسار على منواله.

أما بعد: فاعلم ـ أخي الكريم، أختي الكريمة ـ أن النظرة أصل عامة الحوادث التي تميت قلب الإنسان، فإن النظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تولد العزيمة، ثم الفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه.

ولقد قيل: "الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم بعده"، ورحم الله القائل:

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يومـا أتعبتـك المناظـر

رأيت الذي لا كله أنت قـادر عليه ولا عن بعضه أنت صابـر

أي: إذا أرسلت نظرك فإنك ترى ما لا تقدر على تحصيله ولا تصبر على بعضه، وهذا من عجائب النظر. فهو سهم ترميه فيعود إليك، قيل:

يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب

والأعجب من ذلك كله أن النظرة تجرح القلب جرحا، فيتبعها صاحبها جرحًا على جرح، حتى يموت القلب، وما أعظم قول من قال:

كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

والمرء مـا دام ذا عين يقلبهـا في أعين الغير موقوف على الخطر

كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهـام بلا قوس ولا وتـر

يسـر المرء مـا ضر خـاطره لا مرحبـا بسرور عـاد بالضرر

0 التعليقات:

إرسال تعليق