من مظاهر الظلم: الغناء (1)

ملخص الخطبة

1- حرمة الظلم كبيره وصغيره. 2- أدلة تحريم الغناء من الكتاب والسنة. 3- الغناء والنفاق.


الخطبة الأولى

أما بعد: فإن من المعلوم لدى المسلمين جميعاً أن الله تعالى قد حرَّم الظلم بجميع أنواعه، ورأينا صورا كثيرة ومظاهر عديدة للظلم، وقد بلغ إنكار الدين على الظالمين بأن حرَّم إلقاء الفضلات والقاذورات في طرق الناس وأماكن جلوسهم، فنهى عن قضاء الحاجة في طرقات الناس وظلِّهم، وأخبرنا أن هذا الفعل يجلب اللعنة على فاعله.

واليوم، لا نريد أن نتحدث عن هذا الموضوع، ولكن نريد أن ننتبه معاً إلى شيء مهم ومهم جداً، ألا وهو أنه إذا كان الذي يؤذي الناس في طرقاتهم وأماكن جلوسهم تحل عليه اللعنة، فما بالك بالذي يؤذي المؤمنين في دينهم وأعز وأعظم ما لديهم؟! أجيبوا، لا شك أنه أشد إثما وأعظم جرماً من أولئك. فلا تعجب إذن حين ترى أكثر الناس اليوم يعيشون عيشة ملؤها القلق والهمّ، والاضطراب والغم.

تكلمنا عن الذي يؤذي المسلمين ـ لا بإخراج أكياس الفضلات ـ ولكن بإخراج أعظم فتنة إلى الشارع، ألا وهي المرأة.. اليوم نتحدث عن مظهر آخر من مظاهر الأذى التي لحقت بالمسلمين، وعمت في مجتمعات المؤمنين، إنها ظاهرة الغناء..

ولا يشك الصالحون في تحريم الغناء.. فهو حرام حرام لا نقاش في ذلك ولا كلام.. ولكن حسبنا أن نذكر الغافل ونعلم الجاهل، فنسمعه كلام رب العالمين، وأحاديث سيد المرسلين، وآثارا عن سادات الأصحاب والتابعين.. لأن كثيراً يجهلون أن تحريم الغناء إنما هو بالنصوص..

يقول الله عز وجل: وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:6].. روى الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة عن أبي أمامة أن رسول الله قال: ((لا تبيعوا القينات ـ الجواري المغنيات ـ ولا تشتروهن، في مثلهن نزلت هذه الآية)) وهذا حديث صحيح نفيس، لأن الشائع لدى طلبة العلم أن هذا التفسير هو تفسير الصحابة، بل هو من تفسير النبي .

وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:6] فقال: (والله الذي لا إله إلا هو، والله الذي لا إله إلا هو، والله الذي لا إله إلا هو، إنه الغناء)، وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وغيرهم.

فيكفينا هذا النص القرآني وتفسير النبي له، وتسميته له لهواً إلى جانب أسماء كثيرة وردت في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة: اللهو، اللغو، والباطل، والزور، والمكاء، ورقية الزنا، وقرآن الشيطان، ومنبت النفاق، والصوت الأحمق، ومزمار الشيطان، والسمود.. أسماء دلت على سماته، تبا لذي الأسماء والأوصاف.

وقال الله سبحانه وتعالى يوم طرد إبليس من رحمته، وأبعده من جنته: قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلأمْوٰلِ وَٱلأولَـٰدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:63-64]، روى الإمام ابن أبي حاتم عن مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس قال: (صوته الغناء)، وفي رواية: (صوته المزامير).

النص الثالث قوله تعالى: أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَـٰمِدُونَ فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ [النجم:59-62]، قال ابن عباس : إن السمود هو الغناء في لغة حمير، يقال: أسمدي، أي غني.

ثلاث آيات صريحة في تحريم الغناء.. يجهلها أكثر الناس في زماننا.. والذي أريد أن أشير إليه وأنبه عليه أن هذه الآيات كلها مكية، أي: نزلت قبل الهجرة، وهذا يعني أن الله تعالى قد حرّم الغناء قبل أن يحرم الخمر وقبل أن يشرع الجهاد وقبل كثير من الواجبات التي يسلِّم بها المسلم.. الخمر ما حُرّم إلا في السنة الثامنة للهجرة.. والغناء حرّم في مكة.. لأن الغناء خمر النفوس، والشراب المحرم أقل إسكارا من الغناء، إذ السكران يفيق بعد مدّة قصيرة، أما الغناء فهو يدعو إلى الدنيا وملاهيها وشهواتها فتعشّش في سويداء قلبه فلا يفيق من سكرته إلا أن يشاء الله..

سيعلم يوم العرض أي بضـاعـة أضاع وعند الوزن ما خف أو ربا

ويعـلم مـا قـد كان في حياتـه إذا صارت أعماله كلهـا هَـبَــا

دعاه الهدى والغَي من ذا يجيـب؟ فقـال لداعي الغيّ: أهلاً ومرحبـا

وأعرض عن داعي الهدى قائلاً له: هواي إلى صوت المعازف قد صبا



الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أنعم علينا بالقرآن، وجنبنا بفضله وكرمه خطوات الشيطان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، الداعي إلى دار الرّضوان، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم لقاء الديان.

أما بعد: فإلى جانب النصوص القرآنية التي ذكرناها، هناك نصوص كثيرة من السنة جاءت تقضي بما قضى به القرآن، فنصت على تحريم الاستماع إلى مزمار الشيطان، ونحن نقتصر على حديثين منها صريحين في تحريم الغناء:

روى البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله يقول: ((ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعارف)).. علَمٌ من أعلام النبوة.. غيبٌ أطلعه الله نبيَّه ، فحدث ما حدّث به: ((ليكونن)) توكيد لا ريب فيه.. ((يستحلون)) يجعلونه حلالاً.. ((يستحلون الحِرَ)) أي: الفروج، ويقصد بذلك الزّنا.. يستحلونه فقط؟.. بل إننا نراهم يقنِّون له قوانين لحماية أهله وناصريه ولا تحول ولا قوة إلا بالله. ((والحرير)) حتى صار الرجال هذه الأيام أشبه بالنساء.. ((والخمر)) ويسمونها بغير اسمها.. ((والمعازف)) آلات العزف وآلات اللهو.. هذا الحديث يضع حجراً في أفواه كل جاهل يتقوَّل على الله فيبيح بعضَ أنواع الغناء، فإنك تسمع الجاهل يقول: لا بأس بالغناء الشعبي، وذاك يبيح الغناء الشرقي، وذاك يبيح الغناء الأندلسي، بحجة أن الكلام فيه مباح.. وهذا كله زور من القول وبهتان على دين الرحمن، وفي الخطبة اللاحقة سوف نبين ما في هذا الغناء من المخالفات الشرعية ما يخفى على كثير من الناس.

ثم لو فرضنا أن الكلام فيه مباح، ألا ترون أنه مصحوب بآلات الطرب والمعازف والله حرّم المعازف؟! بل لم يزل فقهاء الإسلام يقولون: لو كسر المسلم آلة لهو وعزف فلا ضمان عليه، لأن هذه الآلات لا قيمة لها في الشرع.

وما الوعيد الذي جعله الله سبحانه وتعالى لهؤلاء؟ استمعوا إلى تتمة الحديث السابق حيث قال النبي : ((ولينزلن أقوام إلى جنب علم ـ أي جبل ـ في لهو ولغو يبيتون، فيضع الله عليهم الجبل ويمسخهم قردة وخنازير)). وهذا المسخ نوعان: حقيقي ومعنوي، أما الحقيقي فقد وقع في بعض البلدان، أما المعنوي فقد عمّ وطمّ، إذ مُسخ أكثر الناس قردة وخنازير.. قردة، ومن خصائص القردة أنها تقلد، فصرنا اليوم نقلد الغرب في كل شيء.. خنازير، ومن خصائص الخنزير أنه لا يغار على عرضه، فصار الناس اليوم يسمعون أغاني الفجور والفسوق والعشق والحب ووصف جسد المرأة أمام زوجته وبناته وأخواته وأمه!! فأين الرجولة؟!

والحديث الثاني ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله قال: أخذ رسول الله بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه، فأخذه النبي فوضعه في حجره، فبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتبكي يا رسول الله؟! أوَلم تكن نهيتَ عن البكاء؟! فقال: ((لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين ـ وفي رواية: ـ صوتان ملعونان: صوت مزمار عند نعمة، وصوت نياحة عند نقمة)).

أما آثار الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة في تحريم الغناء فأكثر من أن تحصى، فقد جاء رجل إلى ابن عباس وسأله: ما تقول في الغناء؟ أحلال هو أم حرام؟ فقال ابن عباس : (أرأيتَ الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟!) قال الرجل: يكون مع الباطل، قال ابن عباس: (اذهب فقد أفتيت نفسك).

إخوتي الكرام، هذا جواب ابن عباس عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح للخمر، ولا دعوة إلى الزنا، ولا الغزل بالنساء، ولا أصوات المعازف. هذا الذي حرمه لم يكن فيه شيء من ذلك، فما قولكم لو سمع غناء هذه الأيام؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.

أما أثر ابن مسعود ، فهو من أعظم الكلام، حتى شاع لدى الناس أنه حديث وهو ليس كذلك، قال : (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع) رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي.

وهذا التشبيه يدل على فقه الصحابة في أحوال القلوب، ومعرفتهم بأدوائها وأدويتها، هذا الغناء له ميزة دون سائر المعاصي، وهو أنه يلهي القلب ويصده عن تدبر كلام الله سبحانه وتعالى، فبمجرد أن تسمعه تتذكر الدنيا، ويهيج في المرء شهوات الغي المخبَّأة في النفس ويحركها، ويبطِّئه عن ذكر الله والقيام إلى الصلاة وهذه علامة المنافق، ويقلِّل الحياء ويذهب الرجولة، فيصير المرء يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فهو بين أمرين: إما أن يظهر ذلك فيكون فاجراً، أو يخالف ظاهره باطنه فيكون منافقاً مذبذباً بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ثم إن الغناء أساسه الكذب، وهذا من علامات النفاق.

وإن أهل الغناء يفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون، وهذه علامة المنافق كما تعلمون، قال الله تعالى: إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَاءونَ ٱلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء [النساء:142، 143]. فما أصح قول ابن مسعود .. وقال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب".

عباد الله، الدعوة مفتوحة لنتأمل جميعاً أحوال المغنين والمحبين للغناء وما هم عليه، وحال أهل القرآن ومحبيه وما هم عليه، لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ [الحشر:20]، لماذا؟ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـٰشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَـٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].. أما حال أهل الغناء:

خروا على القرآن عند سمـاعه صمـاً وعميـانـاً ذوي إهمـال

وإذا تـلا القارئ عليـهم سورة فأطـالهـا عـدوه فـي الأثقـال

حـتى إذا جاء الغـناء لديهـم خشعت لـه الأصوات بالإجـلال

يـا أمـةً لعبت بديـن نبيهـا كـتلاعب الصبيان في الأوحـال

وللحديث بقية

0 التعليقات:

إرسال تعليق