الشرك المنافي للتوحيد (2)


ملخص الخطبة

1- تعريف التوحيد وصور العبادة الخالصة. 2- الشرك في قوم نوح. 3- مغالطات بعض من تعمم بالجهل والثقافة.


الخطبة الأولى

أما بعد: فقد تحدثنا معكم في الخطبة الأخيرة عن أكبر الكبائر في هذا الوجود، وأعظم الذنوب في حق الله الرحيم الودود، ألا وهو الشرك بالله الذي لا يغفره الله لعبده إذا مات عليه. وكان آخر نداء لإخواننا الكرام هو عدم الاغترار بالنفس، فإن المؤمن لا يأمن على نفسه الوقوع في حبال الشرك بعد أن لم يأمنه الأنبياء والمرسلون على أنفسهم، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [الزمر:65]، هذا ما أوحاه الله إلى كل الأنبياء، حيث ذكر الله تعالى في كتابه في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولاً من بينهم أولو العزم من الرسل يحذرهم من الوقوع في الشرك فقال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَـٰنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ وَإِخْوٰنِهِمْ وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ وَهَدَيْنَـٰهُمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:82-88].

ثمانية عشر نبيًا مهدّدون بحبوط الأعمال لو أشركوا بالله الكبير المتعال، فهل يأمن على نفسه من هو دونهم؟!!

وقد علمنا أن العبد لا يكون موحدًا التوحيد الصحيح الذي ينجيه في الدنيا من القتل والأسر، وفي الآخرة من عذاب النار بمجرد اعتقاده أن الله هو رب كل شيء وخالقه ومليكه ومدبره، فإن مثل هذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين بعث فيهم الرسول ، بل لا بد مع ذلك كله من توحيد الألوهية الذي هو الغاية العظمى من بعثة الرسل، وحينئذ من المهم جدًا أن نتعلم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد والذي يشترط للنجاة من الخلود في العذاب الشديد.

فما التوحيد؟ وما الشرك؟ وكيف ظهر الشرك في هذه الدنيا؟ وما مظاهر هذا الشرك أعاذنا الله وإياكم منه؟

التوحيد هو صرف جميع العبادات لله والإخلاص له فيها وحده. فكل ما تعلمه أنه عبادة لله يحرم عليك صرفها إلى غيره تعالى، سواء كانت تلك العبادة قلبية أو قولية أو بدنية.

مثال القلبية: الحب والخوف والرجاء والتوكل.

ومثال القولية: الدعاء والتعوذ والاستغاثة والحلف.

ومثال البدنية: الصلاة والحج والطواف والذبح وغيرها.

فكل ذلك يجب أن يكون لله وحده لا شريك له قال تعالى آمرًا نبيه : قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

فإن صرفت جزءًا من أجزاء العبادة القلبية والقولية والبدنية إلى غير الله عز وجل كنت قد أشركت به تعالى.

فكيف بدأ الشرك في هذه الدنيا؟

ألا فاعلموا أن الناس بين آدم ونوح عليهما السلام كانوا على الفطرة السليمة وعلى التوحيد الخالص، وبقوا على ذلك قرونًا من الزمن، حتى توفي منهم رجال صالحون بلغوا القمة في التقوى والصلاح، مثل ودّ في بني كلب بدومة الجندل، وسواع في بني هذيل، ويغوث في مراد، ويعوق في همذان، ونسر في حمير، ماتوا، فجاء الشيطان يوحي للناس قائلاً: ما ينبغي لكم أن تتركوا سيرة هؤلاء الرجال تذهب أدراج الرياح، اجعلوا لهم تماثيل يذكرهم الناس بها جزاء صلاحهم واستقامتهم ففعلوا، وبعد مضي جيل جاء الشيطان ليقول لهم: إن آباءكم ما اتخذوا تماثيل لهؤلاء إلا لأن لهم جاهًا عظيمًا ومقامًا رفيعًا عند الله، فقد كانوا يدعونهم ويستسقون بهم المطر، فصار الناس يدعونهم ويعتقدون فيهم تفريج الكربات وإجابة الدعوات. هذا تفسير ابن عباس لقوله تعالى في سورة نوح: وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23].

فبالله عليكم ألا يوجد مِن هذا في أيّامنا هذه في بلاد المسلمين؟! ألم يتخذ الناس اليوم قبابًا ومساجد وأضرحةً لأناس صالحين مثل عبد الرحمن الثعالبي بالعاصمة وبلال والهواري بوهران وإدريس بتيارت وأبو مدين بتلمسان وعبد الرحمن الإيلولي وغيره كثير في بلاد القبائل وآلاف مثلهم في الجنوب الجزائري؟! ناهيكم عن البلدان الإسلامية الأخرى التي تبلغ القباب المنتصبة فيها أكثر من خمسين ألف قبة تزار ويطاف بها ويذبح لها ويدعى أصحابها، فأين أتباع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعهم أفضل الصلوات وأزكى التسليم؟!

لماذا نرى الناس ينددون بكل شيء؛ بأزمة السكن وبأزمة العمل وبأزمة الأمراض وبأزمة الفقر، فيرسلون الرسائل والخطابات ويعقدون المجالس والمؤتمرات، ولا يكلفون أنفسهم إقامة مؤتمر واحد للتنديد بهذا الشرك؟! ولكنه حق الله لا يهمنا بأكثر مما تهمنا حقوقنا والله المستعان.

ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمـنكـرون لكـل أمر منكـر

أبنيَّ إن مـن الرجال بهـيمة في صورة الرجل السميع المبصر

فطِن بكل مصيـبة في مالـه وإذا تصبـه في ديـنه لم يشعـر

وقد يقول قائل متشدق تعمّم بالجهل وانتعل بالعفن الفكري: لا يمكن أن يبتعد الناس عن الشرك ومظاهره حتى نقضي عل كل آثار الفقر والمرض والبطالة وغير ذلك...

وهذا القول حكايته تغني عن رده، ويدل على جهل فظيع بسنن الله الكونية فضلاً عن أوامره الشرعية، ولا أراه إلا يساوم ربه سبحانه على حقه فقلب الموازين لفرط حمقه.

فيقال له: أولاً: قلبت الموازين، فالله سبحانه وتعالى يعلق الأمن والفلاح والعزة والنصر على التوحيد، وتأتي أنت لتعكس ذلك كله، فلا أراك إلا منتهجًا مذهب أبي نواس: "وداوني بالتي كانت هي الداء".

ثانيًا: انظر إلى أكبر الدول الصناعية اليوم والتي حققت ـ في نظرك ـ الحياة المثلى لأقوامها، تجدها مع غناها وتقدمها، تجدها دولة وثنية كالصين واليابان يعبدون بوذا وكونفوشيوس، والنصارى يعتقدون أن نبي الله عيسى ابن الله وإلهٌ في الوقت نفسه، ولو اتصلت بالمركز العالمي للإحصاءات وسألت عن أكثر الديانات انتشارًا في العالم لقيل لك الوثنية في المرتبة الأولى، كل ذلك يدل على أن الشرك بالله سببه ضعف العلم بالله، وغياب وحيه وهداه، لا علاقة للفقر والبطالة به.

ثالثًا: هلا أريتنا قومًا بلغوا القمة في التوحيد أكثر من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، كانوا لا يشبعون من خبز الشعير، ويموت أحدهم ولا يجدون ما يكفنونه به، فهل نُقِل عن أحدهم أنه أشرك بالله، حاشا وكلا.

إذن، يجب تعليم الناس توحيد رب العالمين وبيانه لهم حتى يضمنوا الأمن والتمكين في الدين، هذا هو العهد الذي يجب أن يقطعه العبد لربه:

يقولون مع أي الفريقين تضلع فلم يبق للإحجام والصبر موضع

فقلت: أما والله ما في قلوبنـا لغيـر جلال الله والحـق موضِع

فقد تصبح الدنيا لإبليس شيعةً ونحـن لـغيـر الله لا نتـشيَّع

فأيـن إذن عهدٌ قطعناه لربنـا بأنَّـا لـه دون البـريَّـةخُضَّع

بلى نحن جند الله بِعناه واشترى فلا هـو يُعفيـنا ولا نحن نرجع

0 التعليقات:

إرسال تعليق