الشرك في محبة الله


ملخص الخطبة

1- منزلة محبة الله وأهميتها. 2- محبة الله شغل عنها البطالون بسفاسف الدنيا. 3- صور لشرك المحبة. 4- الاتباع دليل المحبة وبرهانها. 5- لماذا نحب الله وحده؟


الخطبة الأولى

أما بعد: فإننا لا نزال نتحدث معكم عن حقوق الله تعالى التي يجب على العباد القيام بها وعدم التغافل عنها، وحديثنا اليوم هو عن أعظم منزلة تنافس عليها المتنافسون، وشخص إليها العاملون، وشمّر لها السابقون، وتفانى عليها المحسنون، وبرَوح نسيمها تروّح العابدون، عن أعظم منازل السائرين، وأشرف مدارج السالكين، ألا وهي منزلة "المحبة"، محبة الله تعالى وحده لا شريك له، شفاء القلوب، وغذاء النفوس، وقرّة العيون، تلكم العبادة القلبية التي من حرمها كان من جملة الأموات، ومن فقد نورها عاش في دياجير الظلمات.

تلكم العبادة هي الشفاء إذا حلّت بقلبك الأسقام، هي اللذة التي تنزع عنك ركامًا من الآلام. حبّ الله والأنس به هو الذي حمل أثقال المحسنين إلى بلادهم الجنة لم يكونوا إلا بشقّ الأنفس بالغيها، ولم يكونوا دونه واصليها، ووالله لقد ذهب أهل حب الله بشرف الدنيا والآخرة.

ويا حسرة من خرج من هذه الدنيا ولم يذق طعم حب الله تعالى ولذة الشوق إليه وحلاوة الالتجاء إليه، وقد قال أحدهم وهو على فراش الموت يبكي: "خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أعظم وأحلى ما فيها: حب الله والأنس بذكره".

ولا يمكن لأحد أن يعرِّف حب الله، بل تعريفه هو وجوده في القلب ومزاولته.

قل لمن عاش حياته يركض وراء المال: ما الذي أضناه؟ سيقول: حب المال.

وقل لمن عاش حياته يركض خلف المرأة: ما الذي أعياه؟ سيقول: حب النساء.

وقل لمن عاش حياته يخدم نفسه وجسده: ما الذي أطغاه؟ سيقول: حب النفس.

وقل لمن عاش دهرًا يخدم سيّده ويتفانى في خدمته: ما الذي أرداه؟ سيقول: حب الجاه.

وسل الذي باع نفسه وماله لله: ما الذي أرضاه؟ سيقول: حب الله، يوم عرض الله عليه السلعة فلم يرض إلا أن يبذل نفسه، يوم تأخّر المبطلون قام المحبّون يستجيبون ويعقدون الصفقة معه سبحانه، فعرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة السلعة، فرأوا أن الغبن كل الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان من غير ثبوت الخيار، فلا يرضون عنه سبحانه بديلاً، ولو عرضت عليهم كنوز الدنيا وخزائنها.

حب الله هو أن تحبه أكثر من نفسك ومالك وولدك والناس أجمعين.

حب الله هو أن تجد الحلاوة العظمى بعبادته، وتجد الضيق الأكبر إن شغلت عنه طرفة عين، ففي الصحيحين عن النبي قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).

حلاوة ما بعدها حلاوة، ولذة ما أعظمها من لذة، حرمها من حرمها، ونالها من نالها، وكان ذو النون المصري يقول بعد انتهائه من صلاة الليل:

اطلبـوا لأنفسـكم مـا وجـدت أنا

قد وجدت لي سكنا ليس في هواه عنا

إن بعدت منه قربني وإن قربت منه دنا

وللأسف، هذه العبادة العظيمة لم تسلم من الشرك أيضًا، قال تعالى: وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ [البقرة:165].

قال علماء القلوب: إن الحب هو أصل كل حركة في هذا الوجود، فإن وقع شرك في هذا الأصل فسد كلّ شيء بعده، وتفصيل هذا الكلام هو أننا نرى كثيرًا من الناس فضّلوا متاع الحياة الدنيا وزينتها وانشغلوا بها عن الغاية الأسمى التي من أجلها خلقوا، ولأدائها رزقوا، فتراهم يبذلون كل حقير ونفيس وكل ثمين ورخيص لأجل دنياهم ولا يبذلون، بل لا يحاولون أصلاً أن يبذلوا ما هو أقلّ من ذلك من أجل مولاهم.

تثقل عليهم الطاعة وتسهل عليهم المعصية ثم يدّعون حب الله.

يأمره الله ربه ورازقه ومدبّر أموره بالصلاة لوقتها، فيراه حكمًا شديدًا غليظًا، ولو أمره سيّده أو رئيسه بحمل الجبال لقال سمعًا وطاعة، ثم يدّعي محبة الله!! لماذا؟ لأنه يحب المال ويرى نفسه مفتقرًا إليه دائمًا.

فلما كثر المدّعون لهذه العبادة العظمى طولبوا جميعًا بإقامة الدليل عليها، إذ البينة على المدّعي، ولو يعطى الناس بدعواهم لادّعى الخليّ حرقة الشجيّ، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ [آل عمران:31] آية فاضحة لكل مدّع مغرور، وكاشفة لحجابه المستور.

من كان يحب الله حقًا فليطعه ولا يعصه، مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ [الأحزاب:4].

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ذا لعمرو الله في القياس بديع

لو كـان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحبّ مطيـع

برهان المحبة هو الخضوع والتذلل، فإننا نرى الخاطب يريد الزواج يبذل كل ما لديه لنيل مقصوده وبلوغ منشوده، ولا يبذل أقل من ذلك لأجل خدمة دين الله.

نرى الرجل لا يفوته موعد انطلاقه إلى عمله، فيستيقظ باكرًا، ولا يستيقظ ليجيب داعي الله لصلاة الفجر، ثم يدّعي محبة الله.

إذن ما حدث من طاعة، وما تقرب إلى الله بقربة، وما قامت عبادة إلا بالحب.

وما حدث من معصية وما تقرب إلى شيء إلا بالحب.

واسأل الذي يكبر تكبيرة الإحرام ولا يرضى خروجًا من الصلاة: ما الذي طمأنه؟

واسأل الذي يكبر تكبيرة الإجرام ولا يرضى مفارقة التلفاز أو الغناء: ما الذي أقعده؟

ذاك محبّ لله ومناجاته فعمل بطاعة الحبيب، وذاك محب للفساد وملاقاته ولا يرضى مفارقة الحبيب، وشتان بين ما يزلف وبين ما يتلف.

لشتان بين اليزيدين في الندى اليزيد بن عمرو والأغر بن حاتم

فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهـم

فلا يحسبن التمتام أني هجوته ولكنـي فضّلـت أهل المكـارم


الخطبة الثانية

الحمد لله أعظم محبوب، وأكبر مرغوب، مثبت القلوب، وغافر الذنوب، ومفرّج الكروب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الله لا يرضى بمزاحمة المخلوقات في قلبك، أخلص الحب له وحده، وكلُّ مخلوقٍ محبوبٌ بعده، اقترب منه وما تقرب العبد إلى ربه بشيء أحب من الفرائض والواجبات، ولا يزال العبد يتقرب ويقترب من الله حتى يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، هو المنعم لا منعم سواه فتذكر نعمه تحبه، هو الرحمن الرحيم لا راحم سواه فتذكر عظيم رحمته بك تحبه، هو الرزاق لا رازق سواه فتذكر ما يسبغه عليك من رزق تحبه. لا تبتعد عنه بالمعاصي فإنك أحوج إليه من حاجة الطفل إلى أمه، وعليك بمناجاته فما أعظمه! وعليك بذكره ما أكرمه! وعليك بعبادته وحده ما أرحمه!

فليـتك تحلو والحيـاة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامـر وبينـي وبين العالمين خراب

فإن صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب

واعلم أن ما أصابك من مصيبة في نفسك أو ولدك أو أهلك أو مالك فإنما هو ابتلاء منه لك، لتلتجئ إليه بعد غياب طويل، ولتذكره بعد انقطاع شديد، وليسمعك تناديه باسمه: يا رب، يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث. يبتليك ليعلم مدى حبك له، هل ستفارقه عند النعمة وتنساه، أو تخاصمه عند النقمة ولا تخشاه؟ وهل نال إبراهيم عليه السلام ما نال من الخلة والمنزلة الرفيعة إلا بطاعة الله تعالى وتقديم أمره على أحب المحبوبات إليه وأعز الناس لديه؟! فعليك ـ يا عبد الله ـ بطاعة ربك فإنها عنوان المحبة والشاهد الصادق عليها، ودون ذلك فادعاء وغرور وبهتان وزور

0 التعليقات:

إرسال تعليق