علامات الساعة الصغرى (2)

ملخص الخطبة

1- التسليم على الخاصة دون عامة الناس. 2- فشو التجارة. 3- فشو الكتابة وقلة العلم.


الخطبة الأولى

أما بعد: فقد رأينا في الخطبة الأخيرة جملة من أشراط الساعة التي ذكرها لنا رسول الله في عدة أحاديث، وقد سردنا على مسامعكم علامات ظهرت ولا تتكرر، وهي بعثة الرسول وموته، وخروج نار من أرض الحجاز، وتوقف الخراج والجزية، كما ذكرنا بعض العلامات التي ظهرت وتبقى متكررةً، منها فشو الزنا، وانتشار شرب الخمر، وتضييع الأمانة، والتطاول في البنيان، وكثرة الفتن، وأن تلد الأمة ربتها، وفشو الجهل، ورفع العلم بقبض العلماء.

وبقيت هناك جملة من أشراط الساعة الصغرى التي ظهرت وهي أمامنا كل لحظة وحين، منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشوَّ التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم)).

فبين يدي الساعة تسليم الخاصة، وهو أن لا يسلم المسلم إلا على من يعرفه، كما في الحديث الآخر: ((إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة)) وهذا أمر مشاهد لا ريب في وقوعه. وهذا خلاف ما أمرنا الله تعالى به، فقد قال عندما سأله رجل: أيُّ الإسلام خير؟ فقال: ((تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف)) متفق عليه. وكان أوّل ما قاله حين دخل المدينة: ((أفشوا السلام))، وإفشاء السلام أكثر من إلقائه، أفشوه أي: انشروه بينكم حتى يكثر ولا تستكثروه، فإن رسول الله قال: ((إن السلام اسم من أسماء الله تعالى، وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم))، وتذكروا جيداً الحديث الصحيح: ((ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين)) لماذا؟ ذلكم لأن السلام بمثابة مصنع ضخم لصنع شيء عجيب، أتدرون ما هو؟! الحب في الله، ووالله إني لأحب أناساً وما أعرفهم إلا لأنهم يلقون علي السلام، وهذا مصداق ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)) إذا عرفتم ذلك فالزموه.

وفشوّ التجارة، وهذا أمر لا يجهله أحد، فإن التجارة اليوم انتشرت انتشار الهواء، وانظروا إلى قوله : ((حتى تعين المرأة زوجها على التجارة))، وهذا لا يعني ألبتة تحريم التجارة، لا أبدا، ولكن هذا إن دل على شيء فهو يدل على التكالب على الدنيا والسعي الكبير وراء حطامها، غافلين عن التجارة الحقيقية التي تثمر رضوان الله ونعيمه، وإلا فما الذي يجعلك تستيقظ باكراً للعمل، ولا تستيقظ لصلاة الفجر؟! ما الذي يجعل زوجتك تعينك على التجارة ولا تعينك على طاعة الله؟! فاللهم بصرنا بعيوبنا، واقذف الإيمان في قلوبنا، ولا تؤاخذنا بذنوبنا.

وقطع الأرحام، وهذه هي الطامة التي عمتنا جميعاً، فقبل سنوات لم تكن هذه الخصلة الذميمة معروفة لدى المسلمين، فقد كان الأقارب يرى بعضهم بعضاً كل حين، يسأل هذا عن هذا، وذاك عن ذاك جسد واحد، قلب واحد، تسامح، إخاء... أين ذلك الآن؟! فاحذر ـ يا قاطع الرحم ـ من قوله : ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك)) متفق عليه، فأظن أنكم أدركتم سبب قلة الرزق والأمن وقلة الرحمة اليوم، ذلكم لأن الله قطعنا. وأبشر ـ يا واصل الرحم ـ بقوله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)).

وظهور القلم، ما معنى ظهور القلم؟ معناه كثرة الكتابة في آخر الزمان حتى تبلغ الذروة، والناظر اليوم في مكتبات العالم الإسلامي ليعجب أشدّ العجب من كثرة الكتب المنتشرة على الساحة الإسلامية وغيرها، فتقام المعارض الكبرى في أنحاء العالم حتى لا يمكنك الاطلاع والإحاطة بما فيها، وتذكروا جيداً ـ عباد الله ـ العلامة التي رأيناها في الخطبة السابقة ألا وهي رفع العلم، سبحان الله! كيف هذا؟ ظهور القلم ورفع العلم في آن واحد؟! هذا ينبئ عن شيء خطير وشر مستطير، ألا وهو أن كثرة انتشار العلم والكتب لا يسمن ولا يغني من جوع، علم بلا عمل.

شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب الكهف في عميق سباتِ

بأيماننـا ذِكران: نـور وسنة فما بالنـا في محالك الظـلمات؟!

ولا تتعجبوا إن قلنا لكم: إن أكبر دور النشر والتوزيع والطباعة في بيروت مثلاً أصحابها نصارى، يطبعون كتب الحديث والتفسير وغير ذلك طلباً للمال، لأنهم علموا أن هذا العلم المبثوث في الكتب لن يبرح مكانه، سيبقى بين الدفّتين، كلام بلا عمل، ليس له رجال يحملونه إلى أرض الواقع. ورحم الله الإمام عبد الحميد بن باديس عندما سئل: لماذا لم تكثر من تأليف الكتب؟ قال: "شُغلت بتأليف الرّجال عن تأليف الكتب"، ولله درّ الإمام الأوزاعي القائل: "إن الله إذا أراد بقوم سوءاً أورثهم الجدل، وأبطأهم عن العمل".

نريد رجالاً ـ أيها الناس ـ أفذاذاً يحبون الله ويحبهم، يؤثرون الدين على شهواتهم، يضحون فيبذلون الغالي والنفيس من أجل نشر دعوة الإسلام، كلٌ بحسبه؛ الغني بماله، والعالم بعلمه، والعامل بعمله. سئمنا الكلام، فهو سهل، واللسان لا يتعب إذ لا عظم فيه، نريد العلم مع العمل. وها هي خطب الجمعة تقام كل أسبوع بما يعادل اثنتين وخمسين خطبة سنوياً، تقام في آلاف المساجد في البلد الواحد، فأين الثمار؟ أين النتيجة؟ اعلموا أننا أصبنا في ديننا فلم نفهمه.

يـا ويح من بات للدّين يحسبه وقتـاً يصام وأوقاتـاً يصلّيها

وإنمـا الدين إيمان وتضحيـة وعـزةٌ تنشر الدنيـا وتطويها



الخطبة الثانية

الحمد لله واهب الحياة وسالبها، باعث الأرواح وقابضها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقنا من تراب وإليه يرجعنا، ومن التراب إذا شاء يبعثنا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أطال الحديث عن الموت وشدته، وعن يوم الحساب وكربته، فنبّه العباد من غفلتهم وخلّصهم من حيرتهم، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، ومن اتبعهم بإحسان بقلوب معلقة بالآخرة، فكانوا لها عاملين، ولكل غالٍ ونفيس باذلين، حتى لقوا الله رب العالمين.

أما بعد: فمن علامات الساعة تداعي الأمم على هذه الأمة، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه أبو داود.

وقد وقع هذا عبر التاريخ أكثر من مرة، عندما تكالبت الأمم الصليبية على غزو هذه الأمة، وعندما اجتاح التتار العالم الإسلامي فأكثر فيه الفساد والدمار، ولم تظهر هذه العلامة كما ظهرت في القرن الأخير، فقد اجتمع الصليبيون واليهود والملاحدة على هدم الخلافة الإسلامية ثم جزَّؤوا ديارها وأقطارها وتقاسموها فيما بينهم. وأين المسلمون؟ أين المليار والأبعمائة مليون مسلماً؟ إنهم أمام التلفاز، إنهم في المقاهي، إنهم في الملاعب، إنهم في الملاهي، غثاء كغثاء السيل، أكثر ضياعاً من الأيتام على مأدبة اللئام، ولا تزال قوى الشر متداعية إلى اليوم لتدمير هذه الأمة التي لم تغن عنها كثرتها، وما علة كل ذلك يا رسول الله؟ ((حب الدنيا وكراهة الموت)).

أبكي على واقع الإسلام من كمد وأزفر الآه تلو الآه من ألم

واللهِ الذي فرض علينا محبته، لو أحببنا الله حق محبته وقدرناه حق قدره لاتخذنا موقفاً من الآن أن ننبذ الدنيا الفانية وراء ظهورنا، ونشتغل بإصلاح أمر ديننا، وهذا هو العهد الذي قطعناه لربنا يوم قلنا: لا إله إلى الله.

يقولون: مع أي الفريقين تضلع فلم يبق للصبر والإحجام موضع؟

فقلت: أما والله ما في قلوبنـا لغير جلال الله والحق موضـع

فقد تصبح الدنيا لإبليس شيعةً ونحـن لغـير الله لا نتشـيـع

فأين إذن عهـدٌ قطعناه لربنـا بأننـا له دون الـبرية خضّـع؟

بل نحن جند الله بعناه واشترى فلا هو يعفـينا ولا نحن نرجع

0 التعليقات:

إرسال تعليق