علامات الساعة الصغرى (1)

ملخص الخطبة

1- اقتراب الساعة باعتبار ما مضى من عمر الكون. 2- قيامة كل إنسان موته. 3- بعض علامات الساعة التي وقعت. 4- بعض علامات الساعة التي نعايشها.


الخطبة الأولى

أما بعد: حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسول الله .

فإننا جئنا إلى هذه الحياة بإرادة واهب الحياة ومبدعها، وسنرحل من هذه الحياة بإرادة قابض الحياة وسالبها، أقوام يأتون، وآخرون يرحلون، مثلهم كمثل أمواج البحر المتلاحقة، تنكسر على الساحل فتخلفها أخرى، مثلهم كمثل النهر المتدفق الجاري، وذلك الماء الذي تراه الآن ليس هو الماء الذي تراه بعده وهكذا، ثم ماذا؟

هذا الامتداد سوف ينقطع لا محالة، سيفنى الوجود كله، وسيدمّر الكون كله، يوم يأتي الله عز وجل على الشمس فيكوّرها، وعلى البحار فيسجرها، وعلى الجبال فيسيّرها، وعلى الأرض فيصدّعها.

وهل هذه هي النهاية؟ كلا وألف كلا.

إنها بداية النهاية، إنها الساعة عباد الله، قال تعالى: وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ [الحجر:85]، وقال عز وجل: ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ [النساء:87]، وقال: إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15]، وقال: وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا [الحج:7]، وقال: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ [فاطر:5].

وقد بين الله لنا في كتابه أنها قريبة، قريبة جداً، فقال: أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1].

ومن نظر حواليه بقلب مبصر وعقل متدبر أيقن قربها واستشعر دنوَّها، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً [النساء:122].

ولعل قائلاً يقول: كيف يخبرنا الله تعالى بقربها، وقد مضى على هذا الخبر أربعة عشر قرناً؟!

فالجواب ـ عباد الله ـ من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: إنها قريبة في علم الله وتقديره، وتقدير الله غير تقديرنا، وعلمه غير علمنا، لذلك قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6، 7].

الوجه الثاني: يجب التنبيه جيداً على أنّ المراد بقوله تعالى: ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ [القمر:1] هو أنه لم يبق من الدنيا إلا الشيء اليسير مما مضى منها، مثل ذلك كمثل من أقرضك مالاً وأمهلك ثلاثين سنة، ثم بقي من الأجل خمس سنوات، ألم تكن لتصف الأجل الباقي بأنه قريب؟! لذلك كلّه قال : ((إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس)) رواه البخاري، وقال : ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) وأشار بالوسطى والسبابة. متفق عليه.

الوجه الثالث: اعلموا جيداً أن قيام الساعة أمر هيّن على الله، ما أهونه وما أيسره عليه، فهو تعالى قادر على أن يقلب الأمور كلها في عشية أو ضحاها، لذلك قال تعالى: وَمَا أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77].

إذن فقول الله حق، وخبره صدق، فما على الإنسان إلا أن يتدبر.

والساعة نوعان: ساعة خاصة وساعة عامة.

فالخاصة هي التي تخص كل فرد بعينه، وذلك عند موته، لأنه من مات فقد قامت قيامته، لذلك أنصحك ـ يا عبد الله ـ ألا تشغل نفسك بعلامات الساعة، بل أعِدّ العدة لساعتك الخاصة التي لا تدري متى تقوم، جاء أعرابي إلى رسول الله يسأله عن الساعة، فقال له رسول الله : ((وماذا أعددت لها؟)). فتزوّد ـ يا عبد الله ـ من الآن بالطاعات وترك المنكرات، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ [البقرة:197].

تزوَّد من التقـوى فإنـك لا تـدري إذا جـنّ ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من فتى أمسـى و أصبح ضاحكاً وقد نُسجت أكفانه وهو لا يدري

وكـم من عروسٍ زينـوها لزوجهـا وقد قُبضت أرواحهم ليلـة القدر

و كـم من صغار يُرتجى طول عمرهم وقد أُدخلت أجسادهم ظلمة القبر

و كم من صحيح مـات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر

فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ [لقمان:33].

والساعة العامة هي اليوم الآخر، يوم ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات والأرض إلا ما شاء ربك، يوم يجمع الله الناس في صعيد واحد، فيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة، يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19].

والله عز وجل الرؤوف بعباده الرحيم بخلقه لم يتركنا غافلين، بل برحمته التي وسعت كل شيء أراد أن يحذرنا ويذكرنا بذلك كله فقال: فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ ٱلسَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، وزادنا من فضله فبين لنا علامات قربها ولم يخفها فقال: إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15]، فهو لم يخفها، فذكر لنا سبحانه علاماتها وأشراطها وآياتها، وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَـٰتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].

وعلامات الساعة كثيرة وهي صغرى وكبرى، فالصغرى منها ما وقع ولا يتكرر، ومنها ما هو واقع ويتكرر، فهي بمثابة الإنذار والتحذير والدعوة إلى التوبة، فكونوا في الاستماع.



الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً لا يبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي وعد الشاكرين المزيد، وحذّر الكافرين الوعيد الشديد، والصلاة والسلام على سيد الأحرار والعبيد، محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن من علامات الساعة التي وقعت ولا تتكرر:

بعثة الرسول : ففي صحيح البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: رأيت رسول الله قال بأصبعيه هكذا ـ الوسطى والتي تلي الإبهام ـ وقال: ((بُعثت أنا والساعة كهاتين))، وفي كتب السيرة أن اليهود كانوا يتحدثون عن الرسول أنه يبعث مع الساعة.

ومن العلامات موته : ففي صحيح البخاري عن عوف بن مالك أن رسول الله قال له: ((أعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي...)) الحديث. وهذه أكبر مصيبة أصيب بها المسلمون، ومن أراد أن تهون عليه مصيبته فليذكر وفاة رسول الله .

ومن العلامات نار تخرج من أرض الحجاز: ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء أعناق الإبل ببُصرى))، وقد وقع ذلك سنة (654هـ) وتكلم عنها الشيخ أبو شامة المقدسي والنووي وابن كثير، وتواتر خبرها، فحين ظهورها وهي نار عظيمة هُرِع الناس إلى المساجد والبيوت يبكون على أنفسهم لأنهم علموا صدق النبوة ووقوعها. وكانت ناراً عجيبة، على عظمها لا حرّ فيها ولا لفح، إنما كانت آية من آيات الله.

ومن العلامات توقّف الخراج والجزية: فإنكم تعلمون أن كفار أهل الكتاب يخيَّرون بين ثلاثة أشياء: إما الإسلام أو الجزية أو القتال، وذلك دليل على عزّة المسلمين وغلبتهم بإذن الله، لكننا نرى اليوم أن ذلك قد اضمحلّ كله، ولم يعد للمسلمين أي شأن يذكر، فبعد أن كانوا متبوعين صاروا تابعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إن لم نكن نحن الذين ندفع الجزية لهم، كل ذلك مصداق ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديَها ودينارها، ومنعت مصر إردبّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم)).

قال النووي في شرحه للحديث: "الأشهر في معناه أن العجم والرّوم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين"، ثم ذكر قول جابر: (يوشك أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم)، قلنا: من أين ذلك؟ قال: (من قِبَل العجم، يمنعون ذلك) رواه مسلم.

هذه علامات وقعت، لا ريب في دلالتها على قرب الساعة، وهناك علامات واقعة لا ينكرها إلا مكابر ولا يجحدها إلا معاند، منها:

كثرة الفتن والقتل: فقد روى أحمد عن أبي موسى الأشعري أنّ النبي قال: ((إنّ بين يدي الساعة الهَرْج))، قالوا: وما الهرج؟ قال: ((القتل، إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه))، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: ((إنه لتنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلُف له هباءٌ من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء)).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده، ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتل)).

عباد الله، فعليكم بتقوى الله، فإنه حبل الله المتين وصراط الله المستقيم، فإن الفتن تسري في هذه الأمة أكثر من سريان الطاعون، ولا يمكن لأي شخص ـ مهما كان ـ أن يظلّ مستقيماً على دينه حين الفتن إلا من عرف الله في الرخاء، فسيعرفه الله في الشدة.

ومن العلامات فشوّ الزنا وشرب الخمر وكثرة الجهل ورفع العلم بقبض العلماء: فعن أنس قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر)). وهل يشك أحد منكم في هذا الخبر؟!

رفع العلم بقبض العلماء، وانتشار الجهل نشاهده كلَّ ساعة، ولم تعرف الأمة الإسلامية هذه الظاهرة كما عرفتها اليوم، حتى كادت أن تكون الأمور المعلومة من الدين اضطرارا، كادت أن تكون نسياً منسياً، لذلك كان من علامات الساعة أن يسند الأمر إلى غير أهله، وذلك هو تضييع الأمانة، فاليوم لا نرى قيمة للعلماء تذكر، وعلى العكس من ذلك نرى تعظيماً للجهال التافهين، وصدق رسول الله حين قال: ((ستكون سنوات خداعات، يؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، ويصدّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، وينطق فيها الرويبضة))، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)).

أما كثرة شرب الخمر وفشو الزنا فحدّث عنه ولا حرج، بل أصبح الأمر أن تُحرَس أماكن الدعارة والخنا والفجور قانونيا، وازداد الأمر انتشاراً أن شوهد ذلك كلُّه على شاشات التلفاز عن طريق لعنة العصر "المقعرات الهوائية"، فصارت الفتنة في بيوت المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن العلامات كذلك تطاول الناس في البينان وأن تلد الأمة ربتها: ومعنى التطاول غير الإطالة، بل هو إطالة فوق إطالة الناس، وهكذا ركن المسلمون إلى الدنيا وحطامها، وأعرضوا عن الآخرة ونعيمها.

ومعنى قوله: ((أن تلد الأمة ربتها)) أنَّ الفتوح تكثر حتى تكثر الإماء، وتنجب من أسيادها من يكون سيدا لها كذلك، وقيل في معناه غير ذلك، وهذا ثبت في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل المشهور.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق