الدّرس 2


ثم قال رحمه الله:

وَبَعْدُ، فالعِلْمُ بِأَصْلِ الفِقْهِ
فَذَاك بالفَضْلِ الجَلِيلِ أَحْرىَ
عَلىَ لِسَانِ الشَّافعيِّ، وَهَوَّناَ
وَتَابَعَتْهُ النَّاسُ حَتىَّ صاَراَ
وَخَيْرُ كُتْبِهِ الصِّغَارِ ماَ سُمِي
وَقَدْ سُئِلْتُ مَرَّةً فيِ نَظْمِهِ
فَلَمْ أَجِدْ مماَّ سُئِلْتُ بُدّاً
مِنْ رَبِّناَ التَّوْفيِقَ للِصَّواَبِ

مُكَمِّلٌ قاَرِئَ عِلْمِ الفِقْهِ
وَاللَّهُ ذُو النَّيْلِ الجَزِيلِ أجْرَى
فَهُوَ الَّذيِ لَهُ ابْتِداَءً دَوَّناَ
كُتْباً صِغاَرَ الحَجْمِ أَوْ كِباَراَ
بِالوَرَقاَتِ لِلإِماَمِ الحَرَمِي
مُسَهِّلاً لِحِفْظِهِ وَفَهْمِهِ
وَقَدْ شَرَعْتُ فِيهِ مُسْتَمِدّاً
وَالنَّفْعَ فيِ الدَّارَيْنِ بِالكِتاَبِ

انتقل رحمه الله بعد حمد الله تعالى، والصّلاة على النبيّ r إلى بيان أمرين: فضل هذا العلم، وبيان نشأته، فنقول:

· أمّا فضله: فيعرف فضل أيّ علم من العلوم من أمرين: من نسبته، ثمّ من أثره.

- أمّا نسبة علم الأصول: فهو من أجلّ علوم الشّريعة، والتّابع له حكم المتبوع كما لا يخفى.

- أمّا أثره: فمن وجوه:

أ‌) فبه يتوصّل لإدراك الأحكام الشّرعية في العبادات والمعاملات وغيرهما، فهو شرط في الاجتهاد.

ب‌) التّمييز بين الاستدلال القويم والاستدلال السّقيم، فهو سدّ متين، وحصن حصين يمنع تسرّب أقوال أهل الأهواء، والفتاوى العمياء. فكما أنّ الإسناد في علم الحديث يمنع من شاء أن يقول ما شاء، فكذلك علم أصول الفقه.

ت‌) معرفة مرتبة الدّليل الصّحيح، فيقدّم النصّ على القياس، والخاصّ على العامّ، ونحو ذلك.

ث‌) الوقوف على أسباب الخلاف بين الفقهاء ممّا يُبنَى من المسائل على القواعد الأصوليّة، وذلك من شأنه أن ييسّر التّرجيح بين الأقوال، كما أنّه يربّي الطّالب على احترام المخالف.

ج‌) دفع التّعارض عن الشّريعة الإسلاميّة، فالجاهل عدوّ نفسِه، وقد قال تعالى:]بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ[ [يونس من الآية: 39].

· نشأته: فاعلم أنّ أصول القه وُجِد بوجود الفقه، فلا يُتصوّر فقه من غير أصول.

فكان الفقه مصدره الوحي بنوعيه: القرآن والسنّة، ولم تكن هناك حاجة إلى غيرهما، فكان رسول الله r يحكم بما أنزل الله عليه، وكان ربّما توقف في المسألة حتى ينزل فيها وحي.

أمّا اجتهاد النبيّ r، فالأحاديث كثيرة تدلّ على أنّه r كان يجتهد، فيُصِيب غالبا، ويخطئ نادرا، ولا يُقَرُّ على خطئه، بل يصوِّبه الوحي دائما.

ثمّ توفّي رسول الله r، فظهر إجماع الصّحابة، وساعد على ظهوره أنّ جمهور الصّحابة وخاصّة المجتهدين منهم كانوا يقطنون حاضرة الخلافة ( المدينة )، لأنّ عمر بن الخطاّب t كان لا يسمح لأحدهم بمغادرة ( المدينة ) إلى الأقطار المفتوحة إلاّ للجهاد، وبعد ذلك العهد تفرّق علماء الصحابة في الأمصار المختلفة، ولم يعد انعقاد الإجماع ميسورا.

أماّ القياس ودلالات الألفاظ وعوارضها من عامّ وخاصّ وناسخ ومنسوخ وغير ذلك فلم ينفكّ عن الفقه ساعة، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

" فإنّ الكلام في أصول الفقه وتقسيمها إلى: الكتاب، والسنة، والإجماع، واجتهاد الرّأي، والكلام في وجه دلالة الأدلّة الشّرعية على الأحكام: أمر معروف من زمن أصحاب محمّد
والتابعين لهم بإحسان

ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وهم كانوا أقعد بهذا الفنّ وغيره من فنون العلم الدّينية ممّن بعدهم " [" مجموع الفتاوى " (20/401)].

ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله إذا تكلّم عن وضع أصول الفقه قال:" وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام في أصول الفقه ".

فنلاحظ أنّ علم الأصول كان موجودا مع وجود الفقه دائما، إلاّ أنّه لم يكن مدوّنا، شأنه شأن علوم الحديث وعلوم اللّغة وغيرهما.

أمّا علم الأصول باعتباره علما مدوّنا فلم يكن له وجود حتىّ جاء الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ رحمه الله (150-204 هـ) فألّف رسالته المشهورة فأملاها بالعراق أوّلا، ثمّ لمّا انتقل إلى مصر تفرّغ لتصحيحها وتهذيبها، وأملاها مرّة أخرى، فكان راوي الرّسالة هو الرّبيع بن سليمان المرادي، وجعلها الرّبيع مقدّمة لكتاب الشّافعيّ " الأم ".

قال أبو محمد الجويني:"لم يسبق الشّافعيَّ أحدٌ في تصنيف الأصول ومعرفتها "، وقال البيهقي:" والشافعي أوّل من صنّف في أصول الفقه "، وقال الرّازي:" اتّفق النّاس على أنّ أوّل من صنّف في هذا العلم هو الشّافعي، وهو الّذي رتّب أبوابه وميّز أقسامه عن بعض، وشرح مراتبه في الضّعف والقوّة ". وممن صرّح بذلك أيضاً ابن تيمية وابن خلدون والسّيوطي وغيرهم من الأئمّة من مختلف المذاهب[1].

والعوامل المساعدة لنشأة هذا العلم هي:

1) اشتداد الجدل بين المدارس الفقهية: مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي.

2) ضعف اللّسان العربيّ الذي أدّى إلى قصور في الإدراك.

3) كثرة الوضع الذي أدّى إلى ظهور التعارض بين النّصوص.

4) نوازل ووقائع لا يمكن الوقوف على أحكامها مباشرة من الوحيين.

فكانت " الرسالة " للإمام الشّافعيّ مفتاحا لهذا الفنّ، وكان بحقّ كما قال الناظم:

…………………..……
عَلىَ لِساَنِ الشَّافعيِّ وَهَوَّناّ

و اللّهُ ذُو النَّيْلِ الجَزِيلِ أَجْرَى
فَهْوَ الذّيِ لَهُ ابْتِداَءُ دَوَّناَ

ثمّ تابعه الناّس في التأليف، ولم يسلكوا طريقا واحدا في ذلك، ويمكن أن نجمعها جميعها في طريقتين اثنتين:

1) طريقة المتقدّمين:

حيث تميّزت هذه الطّريقة بالتّأصيل الصّحيح والمفيد، بعيدا عن علم الكلام، أو التعصّب لآراء الإمام، مجتنبةً ذكر ما لا يبني عليه عمل كالمسائل الفرضيّة.

ومن أمثلة الكتب الّتي تسير على هذا النّمط:

1- رسالة الإمام الشّافعيّ رحمه الله، وشروحها، منها:

- شرح أبي بكر محمّد بن عبد الله الصّيرفيّ (330 هـ).

- شرح أبي الوليد حسّان بن محمّد النّيسابوري (349 هـ).

- شرح محمّد بن عليّ بن إسماعيل المعروف بالقفّال الشّاشي الكبير (365 هـ).

- شرح أبي بكر محمّد بن عبد الله الجوزقيّ الحافظ (388 هـ).

- شرح أبي محمّد عبد الله بن يوسف الجويني (438 هـ).

2- كتاب " الأصول " لأبي بكر الجصّاص رحمه الله.



[1]/ " مناقب الإمام الشافعي " للبيهقي (1/368)، و" مناقب الشافعي " للرازي (153)، و" مجموع فتاوى ابن تيمية " (19/178) (20/403)، و" مقدّمة ابن خلدون " (1/475)"، و" الشّافعي " لأبي زهرة (162).




1- " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم رحمه الله

1) طريقة المتأخّرين: وهم الّذين ابتعدوا عن طريقة المتقدّمين في التأليف، فكانوا على ثلاثة مناهج:

أ) منهج المتكلّمين: وهو مسلك تقرير القواعد مدعّمة بالأدلّة والبراهين دون التفات إلى موافقة أو مخالفة هذه القواعد للفروع المنقولة عن الأئمّة. وأصحاب هذه الطريقة هم جمهور المؤلّفين في علم الأصول.

ومن تلك الكتب:" البرهان " للجويني، و" المستصفى " للغزالي، و" العمدة " للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وهذه الكتب الثّلاثة هي الّتي جمعها واختصرها الرّازي في " المحصول " والآمدي في "الإحكام ". ثم راح النّاس يختصرون هذه الكتب ويشرحونها.

ويُعاب على هذه الطّريقة أنّها مشحونة بالقواعد الكلاميّة، والمناقشات لأمور ضروريّة، والتوسّع في ذكر المسائل الفرضيّة.

ب) طريقة الحنفية: وهي مسلك يقوم على تقرير القواعد الأصولية على مقتضى ما نقل عن الأئمّة من فروع فقهيّة فكانوا إذا وجدوا قاعدة من القواعد لا تتّسع لبعض الفروع المقرّرة في المذهب تصرّفوا في القاعدة.

لذلك كثرت الفروع في كتبهم الأصولية.

ومن أهمّ كتب هذا المسلك:" أصول الدبّوسي "، و" تمهيد الفصول في الأصول " للسّرخسي، و" أصول البزدوي" مع شرحه " كشف الأسرار "، و" أصول الكرخي ".

ويُعاب على هذه الطّريقة أنّها جعلت الأصل فرعا، حيث بُنِيت كثير من القواعد على ضوء ما ذهب إليه الإمام، وتوسّعوا في مناقشة الأمثلة الفقهيّة حتّى كادت تكون كتبا فقهيّة.

ج)- منهج الجمع بين الطّريقتين: أي: الجمع بين طريقة الأحناف وطريقة المتكلّمين، وأهمّ الكتب في ذلك:

* بديع النظام: الجامع بين كتابي البزدوي والإحكام لابن الساعاتي الحنفي (تـ 649 هـ).

* تنقيح الأصول وشرحه لصدر الشريعة عبيد الله بن مسعود الحنفي، وهو تلخيص لأصول البزدوي ومحصول الرازي ومختصر ابن الحاجب.

* جمع الجوامع لتاج الدين السُّبكي ألّفه من زهاء مائة مصنّف كما قال.

* التحرير للكمال بن الهمام وشرحه تلميذه ابن أمير حاج في "التقرير والتحبير".

* مسلّم الثبوت لمحبّ الدين بن عبد الشكور (1019 هـ)، وهو أدقّ وأوضح وأسهل.

ثم بقي علم الأصول مدّة من الزمن جامدا يدور مؤلّفوه حول الشرح والاختصار تاركين أمر البحث المستقل.

ولم يخرج عن هذه الطّريقة إلاّ ما ندر، كالمباحث الأصوليّة الّتي ذكرها ابن القيّم رحمه الله في" أعلام الموقّعين "، والإمام الشّريف التّلمسانيّ (تـ:826) في كتابه " مفتاح الأصول في بناء الفروع على الأصول "، وتلميذه الإمام الشّاطبيّ رحمه الله (تـ:780 هـ)، فألّف كتابه " الموافقات ".

تنبيه:

لكي يكون التّأليف في علم الأصول نافعا مُثمِرا، فلا بدّ من مراعاة أمور أربعة:

أوّلها: يسر العبارة وسهولة الكلمة، فالركاكة تميّعه، والتعقيد يقنّعه.

الثاني: الاختصار، لأنّ التطويل مدعاة إلى الملل والفتور، وإلى النّسيان والنّفور.

الثالث: وهو متمم للثاني: أن يكون الاختصار حاويا غير مخلّ، فلا يترك بحثا في الأصول إلاّ جلاّه وسهّله، ولا فصلا نافعا إلى كشفه وذلّله.

الرابع:حذف ما لا داعي له ولا ثمرة. [انظر " المحققة النونية في الأصول "].





ومن الكتب التي توفّرت فيها هذه الشروط - إلاّ ما سنبيّن أنّه على خلاف ذلك - كتاب متن " الورقات "ونظمه " تسهيل الطرقات في نظم الورقات "، ذلك لأنّ "الورقات" كما قال الناظم رحمه الله:

وخَيْرُ كُتْبِهِ الصّغَارِ مَا سُمِيَ

بِالوَرَقَاتِ للإمام الحرميِ

الإمام الحَرَمِي: هو إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، نسبة إلى جوين من نواحي نيسابور، خرج إلى مكّة فجاور بها أربع سنين ينشر العلم، فقيل له إمام الحرمين، له مصنّفات عدّة أبرزها:" الإرشاد "، و"الشّامل في أصول الدين "، و" العقيدة النظامية " كلّها -للأسف- في نصرة العقيدة الأشعرية، وله في الأصول " البرهان " و" الورقات " توفّي رحمه الله سنة 478 هـ.

و" الورقات " متن صغير الحجم، غزير الفائدة، حوى أهمّ مباحث أصول الفقه، وقد شرحها كثير من أهل العلم، وقام بنظمها الإمام العمريطي رحمه الله، فجاءت على أحسن ما يرام.

تنبيه ( استمداد علم الأصول):

اعلم أنّ من مبادئ العلوم معرفة استمداده، واستمداد علم الأصول من أمور ثلاثة:

1) علم التّوحيد:

ذلك لأن المجتهد سوف يتطرّق لمبحث حجيّة الكتاب والسنّة وقول الصّحابيّ، ولن ولا يمكن إثبات ذلك على الوجه الصّحيح إلا إذا كان على اعتقاد سليم.

2) علوم اللّغة العربية:

فإنّ الأصوليّ وهو يبحث في دلالات الألفاظ وعوارضها مثلا، فينبغي له أن يكون ملماّ بعلوم اللّغة من أساليب الأمر والنهي والعموم والخصوص وغيرها.

3) الفقه:

فإنّ علم الأصول يحتاج فيه إلى ذكر الأمثلة الكثيرة لفهم المسائل، والأمثلة تقتبس من الفقه الإسلاميّ.



0 التعليقات:

إرسال تعليق