الدّرس 1

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين أمّا بعد:

فهذا تقييد لبعض الفوائد النّافعة، والقواعد الجامعة، من شرح المنظومة الرّائعة،" نظم الورقات " للإمام العمريطي رحمه الله تعالى، الموسومة بحقّ :" تسهيل الطّرقات لنظم الورقات ".

قال رحمه الله تعالى:

قَالَ الفَقِيرُ الشَّرفُ العَمْرِيطِي
الحَمْدُ لِلَّهِ الذّيِ قَدْ أَظْهَرَا
ثُمَّ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ سَرْمَدَا
أَصْلِ الأُصُولِ، أَشْرَفِ العِبَادِ

ذُو العَجْزِ والتَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ
عِلْمَ الأُصُولِ لِلْوَرَى وأَشْهَرَا
عَلَى زَكِيِّ الأَصْلِ طَهَ أَحْمَدَا[1]
وَآلِهِ وَصَحْبِهِ الأَمْجَادِ

- قولـه: ( قال ) استعمل صيغة الماضي ككثير من المؤلّفين في مقدّماتهم، مع أنّه لم يقل بعد شيئا، فيوجّه العلماء ذلك بأحد توجيهين:

الأوّل: أنّه كتب المقدّمة هذه بعد ما انتهى من تصنيفه، فيكون الفعل الماضي جاريا على حقيقته.

الثّاني: أنّ ذلك باعتبار ما في الذّهن، فهو قد قال شيئا في ذهنه قبل أن يقدّم لكتابه.

- قوله: ( الفقير ): هذا من تواضع العلماء لربّهم سبحانه وتعالى، إشارة منهم إلى أنّ ما نالوه من مراتب العلم ودرجات الفضل إنّما هو بتوفيقه عزّ وجلّ.

- قوله: ( الشَّرفُ العَمْرِيطِي ) هو العلاَّمة المفضال الشّيخ شرف الدّين يحيى بن الشّيخ نور الدّين موسى ابن رمضان بن عميرة، الشهير بالعمريطي، نسبة إلى بلدة عمريط بالفتح على المشهور أو بالكسر ، وهي ناحية من نواحي مصر.

كان رحمه الله آية في النظم حتَّى إنه لا يحتاج إلى شرح. له " نهاية التدريب في نظم غاية التقريب " و" التيسير في نظم التّحرير " كلاهما في الفقه الشافعي، وله " الدرَّة البهيّة في نظم الآجرومية " في النَّحو، وله " تسهيل الطرقات لنظم الورقات " في الأصول وهو نظمنا هذا. أرّخ إتمامه سنة 989 كما أشار في الخاتمة.

- قوله: ( الحَمْدُ لِلَّهِ ) ابتدأ بالحمد على عادة المصنّفين اقتداء بالكتاب العزيز، وبرسول الله r في خطبه.

وقد عرّف العلماء الحمد بأنه الشكر باللسان، والثّناء الجميل بلا سبق إحسان.

وفرّقوا بينه وبين الشكر بأن الشّكر هو الثّناء الجميل باللّسان والقلب والجوارح على سبق إحسان.

لذلك قالوا: الشّكر أعمّ آلةً من الحمد، وأخصّ متعلَّقاً.

تنبيه: تعريفهم للحمد بأنّه " الثناء " إنما هو على سبيل التّجوّز والتّوسّع، وإلاّ فإنّ الحمدَ هو ( وصف المحمود بالكمال ) فإذا تكرّر كان ثناءً، ويدلّ على ذلك أمران:

الأول: أنّ الثّناء هو التكرار، من: ثنى الشيء ثنيا إذا رد بعضه على بعض، ومنه التثنية أي: جعل الشيء اثنين، ومنه تسمية الفاتحة " السبع المثاني " لأنّها تكرر في كلّ ركعة من ركعات الصّلاة، وتعاد في كل ركعة.

الثاني: روى مسلم عَنْ أبي هُريرة t عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:]الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:]الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:]مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي...

فقد غاير بين الحمد والثّناء، ولم يذكر الثّناء إلاّ عندما تكرّر المدح.

- قوله: ( للهِ) اللاّم هنا للاستحقاق، و" الله ": هو علم للمعبود وحده بحقّ.

وكثيرٌ من أهل العلم صرّح باشتقاقه من " أَلِهَ "، بمعنى عبد وذلّ. [انظر " بدائع الفوائد " و" تفسير ابن كثير"، و" فتح المجيد بشرح كتاب التّوحيد ".]

واختار بعضهم عدم الاشتقاق، وعَزَوْه إلى الخليل وتلميذه سيبويه وأكثر الأصوليّين[2].

وحاصل البيت أنه رحمه الله يحمد الله تعالى على نعمه الّتي لا تعدّ ولا تحصى، ومن أعظمها إظهار علم الأصول وإشهاره بين الناس، لأنّه علم يكبح جماح كلّ متقوّل على الله ورسوله r، مميّزٌ للأقوال الصّادرة عن الهوى أو التّقوى.

- قوله: ( ثُمَّ الصَّلاَةُ ) لمّا كانت نعمة الإسلام وفضيلة الإيمان وما ينبع عنهما من صلاح المعاش والمعاد متحققةً ببلاغ الرّسول الكريم r، ناسب إرداف الحمد بالصلاة والسلام عليه.

وجاء رحمه الله بحرف العطف ( ثمّ ) المفيد للتراخي، لبيان أنّ حمده لله قد طال زمنه، كما وجّه ذلك السّخاوي رحمه الله قول الإمام العراقي في ألفِيَّته:

( ثــمّ صــلاة وســلام دائــم عـلـى نـبـيّ الخـيـر ذي الـمراحـم )

أمّا معنى ( الصّلاة )، فقد أخرج إسماعيل القاضي في " فضل الصَّلاة على النَّبي " عن أبي العالية قال:" صلاة الله عزّ وجل عليه r: ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه: الدّعاء ".

وقوله:صلاة الله ثناء، أحسن من قول كثيرين إنّها " الرّحمة "، لأنّ الله قد غاير بينهما في قوله تعالى:]أُولَئِكَ علَيْهمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ[، ثمّ إنّ الثناء أمر زائد على الرحمة، مقتضٍ لها.

أمّا صلاة الأمّة على نبيّها فهي أيضا " الدّعاء "، وأحقّ الناس بدعاء الأمَّة هو النَّبي r.

- ولم يفردها النّاظم رحمه الله عن السّلام كما فعل بعضهم، لكراهة ذلك كما صرَّح به الإمام النَّووي في " الأذكار" والسخاوي، والشّيخ زكرياّ الأنصاري رحمهم الله جميعا، لأنّ إفراد الصّلاة عن السَّلام على خلاف ما ورد في أمره تعالى قائلا: وامتثالاً لقوله تعالى:]ياَ أَيُّهاّ الَّذِيِن آمَنُوا صَلوُّا عَـليْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً[.

[ فائدة ] اتّفقوا على وجوب الصَّلاة على النَّبي r، لكنّهم اختلفوا: هل تجب في العمر مرَّة ؟

أو إنَّها تجب عند ذكره r كل مرّة ؟

أو إنّها تجب في المجلس مرّة ؟

الّذي رجَّحه الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره من المحقّقين هو القول الأخير، ويؤيِّده حديث التّرمذي: (( ما جَلَسَ قومٌ مَجْلِساً لَمْ يذْكُرُوا الله فِيهِ وَلَمْ يُصَلوُّا على نبيِّهم إلاَّ كانَ عَليْهم تِرَةٌ، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ )).

فيحمل قوله r: (( البَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَه ثمّ لَمْ يُصلِ عَلَيَّ ))[3] على المجلس، والله أعلم.

- قوله: ( سَرْمَدًا ) أي دائما أبدا مطَّرِدا. ومنه قوله تعالى:]قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)[ [القصص].

- قوله: ( زَكِيِّ ) على وزن فعِيل من زاكٍ بمعنى طاهر، وفعيل للمبالغة.

- قوله: ( طه ) فاعلم أنّه لم يرد لا في كتاب الله ولا في سنة صحيحة أنّ ( طه ) اسم من أسمائه r.

ثمّ إنّ المقرر أنّ أسماء الله تعالى وأسماء رسوله r مطابقة للمسمى في المعنى.

قال ابن القيم:" وهذا شأن أسماء الرب تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء نبيه، هي أعلام دالّة على معان هي بها أوصاف، فلا تُضَادُّ فيها العلميةُ الوصفَ، بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين.." [" جلاء الأفهام " (1/171)].

فمن أسماءه تعالى " الرحمان " و" العزيز " و" القهار " وكلها ذات معنى هو صفة له تعالى، ومن أسماءه r "نبيّ الرحمة" و" نبيّ الملحمة " و" الحاشر " و" القاسم "، وكلّها ذات معنى هو صفة له r.

فإذا تقرر هذا، فما معنى" طه " ؟

وربّما استدلوا بقوله تعالى:]طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى[ على أنَّ ( طه ) هنا منادى.

وهذا بعيد جدّا، لأنَّ ( طه ) من الحروف المقطّعة.

- قوله: ( أَصْلِ الأُصُولِ ) إن كان استعـماله لكلمة " أصـل " هـنا مريدا بها مـعنى الفِعل، كـأنـّه يقـول:" الذي أَصّـَلَ الأصول " فهو كلام سائغ، لأنّه r هو الذي وضع قواعد هذا الدين الحنيف.

أمّا إن كان المراد أنّه أصل المخلوقات، فاعلم أنَّها عقيدة المتصوّفة الذين يبذلون قصارى جهدهم ليقـنعوا النّاس بأنّ أوّل المخلوقات هو النّبيّ r ومنه خلق الله الخلق، وهذا ممّا لا دليل عليه البتّة.

فلعلّ مراد المصنّف هو الأول.

- قوله: ( وآلِهِ ) للعلماء قولان في أصل كلمة ( آل ):

القول الأوّل: أصله " أهل " قلبت الهاء همزة ثم سهلت، قالوا:ودليل ذلك التصغير فيقال " أُهَيل "، والتصغير يردّ الحروف إلى أصلها.

القول الثاني: أصله ( أول ) كما قال الإمام الجوهري رحمه الله، مأخوذ من " آل يؤول " إذا رجع، فآل الرجل يرجعون إليه ويضافون إليه، ومنه التّأويل وهو الحقيقة التي يرجع إليها اللفظ، وهذا الذي رجّحه الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه " جلاء الأفهام(1/203) ".

وآل الرجل عياله وأهله: أي الزوجة والأولاد.

أمّا معناها الشرعي فقد اختلفوا فيه على أقوال، والصّواب هو التفصيل:

فعند الإطلاق يراد بالآل قرابته المؤمنون من بني هاشم وبني عبد المطلب وأزواجه وذريّته r، وهم من تحرم عليهم الصدقة.

وعند اقترانها بالأزواج، فالمراد بهم قرابته المؤمنون من بني هاشم وبني عبد المطّلب وذرّيته.

وهو مذهب الشّافعيّ، وأحمد في رواية، والله اعلم.

- قوله: ( وَصَحْبِه ِ) جمع صاحب، كرَكْب جمع راكب. وتعريف الصّحابي يختلف بحسب أهل كلّ فنّ، فالمحدّثون على أنّه :من لقي النبيّ r مؤمنا به ومات على ذلك وإن تخلّلته ردّة على الأصحّ " كما في " شرح النّخبة ".

أمّا الأصوليّون فيقيّدون الملاقاة بطول الصّحبة، ولعلّهم اشترطوا ذلك توطئة للبحث في حجية مذهب الصحابي


[1]/ هذا البيت وثلاثة أبيات بعده من وضع الشيخ عبد الحميد بن محمد عليّ قدس رحمه الله، أحد شرّاح نظم الورقات، وشرحه هو:" لطائف الإشارات في شرح تسهيل الطّرقات "، وعلّل ذلك بأنّ من عيوب الخطب أن تتجرّد من الصّلاة والسّلام على النبيّ r.

[2]/ وفي نسبة هذا إلى سيبويه نظر، فقد نقل عنه ابن سِيدَه رحمه الله أنّ أصله إِله، وأنّ الألف واللّام فيه خلف من الهمزة، انظر "شرح مشكل شعر المتنبّي " ص(45) بتحقيق محمد رضوان الدّاية.

[3]/ الحديث أخرجه التّرمذي والإمام أحمد عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما.

0 التعليقات:

إرسال تعليق