الدّرس 17

بَابُ اَلخاَصِّ

المبحث الأوّل: حدّه وفائدته:

الخاصّ لغة: اسم فاعل من خَصَّ يَخُصُّ تَخْصِيصاً وهو ضدّ العامّ.

والتخصيص هو ضدّ التعميم.

اصطلاحا: الخاصّ هو: اللّفظ الدّال على محصور. أو لا يعمّ أكثر من واحد.

فقولنا:" اللّفظ " قيدٌ يخرج به الفعل والمعنى، فإنّ الخصوص من أوصاف اللّفظ.

قولنا:" الدّال على محصور " قيد خرج به العامّ.

أو قولنا:" لا يعمّ أكثر من واحد " مخرج للعام كذلك.

فيكون التّخصيص اصطلاحا هو: إخراج بعض أفراد العامّ. وهذه هي فائدة الخاصّ، لذلك قال النّاظم:

وَالخَاصُّ لَفْظٌ لاَ يَعُمُّ أَكْثَرَا
وَالقَصْدُ بِالتَّخْصِيصِ حَيْثُماَ حَصَلْ

مَنْ واَحِدٍ أَوْ عَمَّ مَعْ حَصْرٍ جَرَى
تَمْيِيزَ بَعْضِ جُمْلَةٍ فِيهاَ دَخَلْ

والتّخصيص لا بد له من مخصّص، وهو الدّليل الذي يحصل به التّخصيص. وهو نوعان:

المبحث الثّاني: أنواع المخصّص:

المخصّص هو الدّليل الذي يحصل به التَّخصيص، وهو نوعان: متّصل ومنفصل.

- النوع الأول: التّخصيص المتّصل.

وهو ما لا يستقل بنفسه، أي: هو الدّليل الملازم للعامّ، وهو ثلاثة: الشّرط، والوصف، والاستثناء.

1- التّخصيص بالشّرط: والمراد بالشّرط هنا هو تعليق شيء بوجود شيء آخر أو عدمه، بـ( إن ) الشّرطية أو إحدى أخواتها، سواء تقدّم الشّرط أو تأخّر.

* مثال عن التّخصيص بالشّرط المتقدّم قوله تعالى:]فَإنْ تاَبُوا وَأَقاَمُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكاَةَ فَخَلُّوا سَبيِلَهُمْ[.

فحكم إخلاء سبيلهم معلّق بشرطين: التّوبة، والعمل بإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة.

* مثال عن الشّرط المتأخّر قوله تعالى:]فَكاَتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً[.

2- التّخصيص بالوصف: الوصف هو ما يجعل بعض أفراد العام مختصّة به، نعتا كان، أو حالا، أو بدلا.

* مثال عن التّخصيص بالنّعت قوله تعالى:]وَرَباَئِبُكُمْ اللاّت فيِ حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمْ اللاَّتِ دَخَلُتٌمْ بِهِنَّ[.

فالرّبائب من النساء المدخول بهنّ يَحْرُمْنَ، فعلم أنّ باقي ذلك وهنّ الرّبائب من النّساء اللاّت لم يدخل بهنّ لا يَحْرُمْنَ.

ومثله قوله تعالى:]فَمِماَّ مَلَكتْ أَيْماَنُكُمْ منْ فَتَياَتِكُمْ المُؤمِنَاتِ[، فلفظ " فَتَياَتِكُمْ " عامّ لأنّه جمع معرّف بالإضافة كما سبق بيانه، فيعمّ الإماء المؤمنات والكافرات، لكنّ قوله تعالى بعد ذلك:]المُؤْمِناَتِ[ خصّص النّص العامّ، وجعله مقصورا على المؤمناتِ.

* مثال عن التّخصيص بالحال:

قوله تعالى:]وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِناً متَعَمِّداً فَجَزاَؤُهُ جَهَنَّمَ خاَلِداً فيِهاَ[، فقبل وجود الحال ( متعمّدا )، كان الحكم يشمل المتعمّد والمخطئ، لكنّ الحال خصّصه بالمتعمّد.

* ومن الأمثلة عن التّخصيص بالبدل:

قوله تعالى:]وَلِلَّهِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ[، فالناّس جمع معرّف بالألف واللاّم، فالحكم يعمّ المستطيع وغيره، لكنّ قوله تعالى بعد ذلك:]مَنْ اسُتَطاَعَ إِلَيِهِ سَبِيلاً[ خَصَّصَّ ذلك العموم، لأنّ " منْ " بدل بعض من كلّ.

3- التّخصيص بالاستثناء:

هو إخراج بعض أفراد العامّ بـ( إلاّ ) أو إحدى أخواتها.

وذكر النّاظم رحمه الله أربعة شروط لصحّة الاستثناء:

أ) الشّرط الأوّل: اتّصاله بالمستثنى منه حقيقة أو حكما، قال: ( وَشَرْطُهُ أَنْ لاَ يُرىَ مُنْفَصِلاً ).

فالمتصّل حقيقة: هو المباشر للمستثنى منه بحيث لا يفصل شيءٌ بينهما.

والمتصل حكما: ما يفصل بينه وبين المستثنى منه فاصل لا يمكن دفعه كالسّعال والعطاس، والكلام غير الأجنبيّ. كما لو قال قائل، "له عليّ عشرة دراهم "، ثمّ سعل أو عطس، ثمّ قال :إلاّ درهمين، فهذا الاستثناء صحيح لأنّه متّصل حكما.

وكما لو قال قائل:" لا أعتق عبيدي "، فقال له قائل: استثن واحدا. فقال: إلاّ عَمْراً.

فهذا استثناء صحيح لأنّ الفاصل هنا كلام غير أجنبيّ. ودليل ذلك حديث ابن عباس t أنّ رسول الله r قال يوم الفتح: (( إِنَّ هَذاَ البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُخْتَلىَ خَلاَهُ ))، فقال العبّاس t: يا رسول الله، إلاّ الإدْخِرَ، فإنَّهُ لِقَينِهم وبيوتهم. فقال r: ((إِلاَّ الإِدْخِرَ ))[1].

فكلام العبّاس فاصل، لكنّه لا يضرّ، لأنّه غير أجنبيّ عن كلام النّبي r.

ب) الشّرط الثّاني: ألاّ يكون المستثنى مستغرقا للمستثنى منه حيث لا يبقى شيء من المستثنى منه، لذلك قال: ( وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقاً لِماَ خَلاَ )، فلو قال قائل:" له عليّ عشرة دراهم إلاّ عشرة " كان لغوا ولم يصحّ استثناؤه، ولزمته العشرة كلّها.

واختلف العلماء فيما لو كان المستثنى أكثرَ من المستثنى منه، كما لو قال: له عليّ عشرة إلاّ ستّة.

فقال فريق منهم: : لا يصحّ مطلقا.

وقال الفريق الآخر: يصحّ مطلقا، بدليل قوله تعالى:]إِنَّ عباَدِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطاَنٌ إِلاَّ منْ اتَّبَعَكَ مَنَ الغاَوِينَ[، ومعلوم أنّ أتباع إبليس أكثر من النصف.

ج) الشّرط الثّالث: النّطق مع إسماع المُخاطَب: فلو قال:" لَه عليّ عشرة دراهم "، ونوى استثناء أربعة، أو نطق بذلك دون إسماع من بقربه، لمْ يصح الاستثناء، ولزمته العشرة.

د) الشّرط الرّابع: النّية قبل الاستثناء: فلو قال:" له عليّ عشرة دراهم "، ثمّ بدر إلى ذهنه أن يستثني، لم يصح عند النّاظم، وهو مرجوح، لأنّ الدّليل قد قام على اعتبار الاستثناء ولو لم ينوه المتكلّم، كما في حديث ابن عبّاس السّابق، فإنّ النّبي r لم ينوِ استثناء الإِدخر.

* واعلم أنّ الاستثناء يصحّ سواء كان المستثنى من جنس المستثنى منه أولا، وهو المعروف عند النحاة بالاستثناء المتصل والاستثناء المنقطع.

فمن الأوّل قولنا: قدم الحجاّج إلاّ زيدا.

ومن الثّاني قولنا: قدم الحجاّج إلاّ متاعهم.

والأصل في الاستثناء أن يكون متّصلا إلاّ لقرينة.

· واعلم كذلك أنّ الاستثناء يصحّ سواء تأخّر أو تقدّم، فمن الأوّل قولنا: قدم الحجاّج إلاّ زيدا.

· ومن الثاني قولنا: "قدم إلاّ زيداً الحجاّجُ ".

وإلى كلّ هذه المباحث من نوعي المخصّص أشار النّاظم بقوله:

وَماَ بِه التَّخصِيصُ(1):إِماَّ مُتَّصِلْ
فالشّرط والتّقيِيدُ بِالوَصْفِ اتّصَلْ
وَحَدُّ الاسْتِثْناَءِ ماَ بِهِ خَرَجْ
وَشَرْطُهُ أَنْ لاَّ يُرىَ مُنْفَصِلاَ
وَالنُّطْقُ مّعْ إِسْماَعِ مَنْ بِقُرْبِهِ
وَالأًصْلُ فِيهِ أَنَّ مُسْتَثْناَهُ
وَجاَزَ أَنْ يُقَدَّمَ المُسْتَثْنَى

كَماَ سّيّأْتِي آنِفاً(2) أَوْ مُنْفَصِلْ
كَذَاكَ الاسْتِثْناَ وَغَيْرُهُ انُفَصَلْ
مَنْ الكَلاَمِ بَعْضُ ماَ فِيهِ انْدَرَجْ
وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقاً لَماَ خَلاَ
وَقَصْدُهُ مَنْ قَبْلِ نُطْقِهِ بِهِ
مِنْ جِنُسِهِ، وَجاَزَ مِنْ سِواَهُ
وَالشَّرْطُ أَيْضاً لِظُهُورِ المَعْنىِ(3)

أماّ المخصّص المنفصل فسيأتي الكلام عليه عند الكلام عن المطلق والمقيد.

وقد أهمل النّاظم تبعا لصاحب المتن بابي المطلق والمقيّد، وليس ذلك إلاّ لأنّ ما به يتمّ التقييد، هو ما يتمّ به التّخصيص كذلك. وسنذكر هذين البابين، وبالله التوفيق.



[1]/ الحديث أخرجه الجماعة.

(1) هو المخصّص.

(2) أي:كما سيأتي ذكره مسبّقاً على الثاني. وليس المراد أّنه سبق ذكره، والله أعلم.

(3) أي: إنّ الشرط يخصص سواء تقدم أو تأخّر كما سبق بيانه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق