الدّرس 15

الدّرس الخامس عشر من شرح " نظم الورقات "

بابُ العَـــام

ونتطرّق إلى باب العام في مباحث أربعة: حدّه، ثمّ صيغه، ثمّ هل الأفعال وما جرى مجراها تفيد العموم ؟ ثمّ بيان حكم العامّ.

المبحث الأوّل: حدّ العامّ:

لغة: هو اسم فاعل من عمّ يَعُمُّ، فهو عامٌّ، أي: شامل، قالوا:" عمّهم الخير " أي: شملهم. كما مثّل النّاظم رحمه الله بقوله: ( مِنْ قَوْلِهِمْ: عَمَمْتُهُمْ بِماَ مَعِـي).

أمّا اصطلاحا: فهو اللّفظ المستغرق لجميع أفراده على وجه الشّمول بلا حصر.

قال النّاظم رحمه الله تعالى:

وَحَدُّهُ لَفْظٌ يَعُمُّ أَكْثَرَا
مِنْ قَوْلِهِمْ:" عَمَمْتُهُمْ بِمَا مَعِي "

مِنْ واَحِدٍ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ قَدْ يُرَى
.............................................

- فقولنا:" اللّفظ"، لأنّ العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، من أوصاف الألفاظ، لا المعاني.

- وقولنا:" المستغرق لجميع أفراده "، قيدٌ يخرج به ما لا يتناول إلاّ واحداً، كالعَلَم، واسم الإشارة، فهما لا يدلاّن على العموم.

- وقولنا:" على سبيل الشّمول " قيد يخرج المطلق، فإنّ المطلق – ويكون نكرة في سياق الإثبات – يتناول واحدا غير معيّن، كقوله تعالى:]فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ[، فهو متناول لرقبة واحدة لا جميع الرّقاب، لذلك يقول العلماء:" إنّ العامّ يستغرق جميع أفراده على سبيل الشّمول، والمطلق يستغرقها على سبيل البدل ".

- وقولنا:" بلا حصر " قيد يخرج به العدد، فإنّه يتناول جميع أفراده على سبيل الشّمول، لكن مع حصر.

المبحث الثّاني: صيغ العموم: قال رحمه الله:

...................................................
الجَمْعُ والفَرْدُ المُعَرَّفاَنِ
وَكُلُّ مُبْهَمٍ مِنَ الأَسْماَءِ
وَلَفْظُ (مَنْ) فيِ عاَقِلٍ وَلَفْظُ (ماَ)
وَلَفْظُ (أَيْنَ) وَهُوَ لِلمَكاَنِ
وَلَفْظُ (لا) فيِ النَّكِراَتِ ثمّ (ما)

وَلْتَنْحَصِرْ أَلْفاَظُهُ فيِ أَرْبَعِ
باللاَّمِ كَالكاَفِرِ وَالإِنْساَنِ
مِنْ ذاَكَ (ماَ) لِلشَّرْطِ مِنْ جِزاَءِ
فيِ غَيْرِهِ وَلَفْظُ (أَيٍ) فِيهِماَ
كَذاَ (مَتىَ) المَوْضُوعُ لِلزَّمَانِ
فيِ لفْظِ مَنْ أتىَ بِهاَ مُسْتَفْهِماً

فصيغ العموم سبعٌ، ذكر النّاظم منها أربعاً:

1- الجمع المعرّف "بـــال " أو بالإضافة:.

والمراد بـ " ال " هنا " ال" الاستغراقية، لا العهدية، فالعهديّة لا تفيد العموم.

وضابط " ال " الاستغراقية أن تحل محلّها كلمة " كلّ ".

· مثال عن الجمع المعرّف بـ" ال " الاستغراقية: قوله تعالى:]إِنَّ اللهَ يحِبُّ المحسِنِينَ[، و]الرِّجاَلُ قَوَّامُونَ عَلىَ النِّساءِ[.

· ومثال عن الجمع المعرّف بالإضافة – وهذا أهمل النّاظم ذكره -:]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أًمَـّهاَتُكُمْ[، فهذا جمع عُرّف بإضافته إلى الضمير فيشمل الأمّهات جميعا وإن علون كالجدّات.

وقوله تعالى:]يُوصِيكُمُ اللهُ فيِ أَوْلاَدِكُمْ[ يشمل الأولاد للصّلب وأولاد الأولاد.

2- المفرد المعرّف بـ:" ال " أو بالإضافة:

· مثال عن المفرد المعرّف بـ" ال " الاستغراقية: قوله تعالى:]إِنَّ الإِنْساَنَ لَفيِ خُسْرٍ[، وقوله تعالى:]وَأحلَّ البيعَ وَحَرَّمَ الرِّباَ[، فيُباح البيع بجميع أنواعه حتّى يثبت دليل التّحريم، يحرم الرّبا بجميع أنواعه للعموم كذلك

· مثال عن المفرد المعرّف بالإضافة – وهذا النّوع لم يذكره النّاظم أيضا – قوله تعالى:]اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ[، فلفظ ( نعمة الله ) يشمل جميع النّعم دقيقها وجليلها.

وقوله r: (( هُوَ الطَّهُورُ ماَؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ )): فإنّ كلمة ( ميتته ) لفظ عامّ يدلّ على حلّ ميتة البحر بجميع أنواعها.

3- الأسماء المبهمة: وهي الأسماء الموصولة وأسماء الشّرط وأسماء الاستفهام.

· أمّا الأسماء الموصولة فمثل: الّذي، والّتي، والّذين، واللاّت، واللاّء، و" من " للعالم، و" ما " لغير العالم، و" أيّ ".

وأمثلة ذلك :

· ]وَالذيِ جاَءَ بِالصِّدْقِ وصّدَّقَ بِهِ أولَــئكَ هُمْ المُتَّقُون[، وقوله:]إِنّ الّذِينَ يَاْكُلُونَ أَمْواَلَ اليَتاَمَى ظُلْماً إِنَّماَ يَأْكُلُونَ فيِ بُطُونِهِمْ ناَراً[، وقوله:]وَاللاَّتي تَخاَفُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ[، وقوله:]وَاللاَّئيِ يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ[، ومثال ( من ) قوله تعالى:]إِنّ فيِ ذَلِكَ لَعِبْرَةٌ ِلمَنْ يَخْشَى[، ومثال ( ما ) قوله تعالى:]مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَذُ وماَ عِنْدَ اللهِ باَقٍ[، ومثال " أي " قوله تعالى:]ثمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ ِشيـْعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلىَ الرَّحْمَنِ عِتَياَّ[.

· أمّا أسماء الشّرط فمثل: مَنْ، ومَا، وأين، ومتى، وأيّان، وحيثما.

(مَنْ)، نحو قوله تعالى:]فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[، فهو عامٌ لا يخرج من العموم إلاّ من استثناه الشّارع الحكيم.

(ما)، نحو قوله تعالى:]وَماَ تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمُهُ اللهُ[، فيعمّ جميع أفعال الخير.

(أيّ) نحو قوله تعالى:]أَياَّ ماَ تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْماَءُ الحُسْنَى[، فيعمّ جميع الأسماء.

(أين) نحو:]أَيْنَ ماَ تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللهُ جَمِيعاً[، فيعمّ جميع الأمكنة.

(متى) نحو قولك: متى تذهب أذهب، فيعمّ جميع الأزمنة.

(حيثما) نحو قوله تعالى:]وَحَيْثُماَ كُنْتُمْ فَوَلُّوا وَجُوهَكُمْ شَطرهُ[، فيعمّ جميع الأمكنة.

· أسماء الاستفهام: مثل: مَنْ، وما، وأيّ، وأين، ومتى، وكمْ، وكيف.

(مَنْ)، نحو قوله تعالى:]مَنْ ذاَ الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ[.

(ما)، نحو قوله تعالى:]ماَذا أَجَبْتُمْ المُرْسَلِينَ[.

(أيّ)، نحو قوله تعالى:]أَيُّكُمْ أَصْبَحَ صاَئِما اليوم[، الخ ...

4- النَّكِرة في سياق النّفي أو النّهي أو الاستفهام ( حقيقيا كان أو إنكاريا أو تقريريا).

· مثال عن النكرة في سياق النّفي: كلمة التّوحيد ( لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ )، حتّى إنّ ( لا ) تسمّى النّافية للجنس، وهي من أبلغ الصّيغ الدالّة على العموم.

ومثل ذلك قوله r: (( لاَ وَصِّيَةَ لِواَرِثٍ ))[1]، و(( لاَ يُقْتَلُ واَلِدٌ بِوَلَدِهِ ))[2].

· ومثال عن النّكرة في سياق النّهي قوله تعالى:]وَلاَ تُصَلِّ عَلىَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ماَتَ أَبَداً[، و:]وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً[.

فعلم من هذا أنّ النّكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم.

· ومثال عن النّكرة في سياق الاستفهام – وفي حقّ الله لا يكون إلاّ إنكاريّا - قوله تعالى:]مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ[.

فهذه أربع صيغ ذكرها النّاظم رحمه الله كلّها، إلاّ أنّه لم يسُقْهَا مرتّبة ومجموعةً، وإنّما ذكر بعض الأسماء الموصولة وبعض أسماء الشّرط وبعض أسماء الاستفهام.

وقد أهمل المصنّف صاحب المتن صيغا أخرى مهمّة، وتبعه النّاظم على ذلك، وهذه الصّيغ ثلاث، هي:

5- ألفاظ تدلّ على العموم بمادّتها: نحو: كلّ، وجميع، وكافّة، وقاطبة، وعامّة، وواو الجماعة.

* مثال عن ( كلّ ): قوله تعالى:]كُلُّ نَفْسٍ ذاَئِقَةُ المَوْتِ[، وقوله r: (( كُلُّكُمْ راَعٍ، وَكُلُّكم مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ )).

* ومثال عن ( جميع ) قوله تعالى:]وَالأَرْضَ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِياَمَةِ[.

* ومثال عن ( كافّة ) قوله تعالى:]وَقاَتِلُوا المُشْرِكينَ كاَفَّةً[، ومثل ذلك قاطبة، وعامّة.

* ومثال عن واو الجماعة قوله تعالى:]وأقيموا الصلاةْ[.

6- حذف المتعلّق ( والمراد به المعمول للفعل أو شبهه ):

فزَيْداً في قولك: " أكرمت زيدا " معمول للفعل" أكرمت " وهو متعلّق به، فإذا حذف المعمول دلّ ذلك على العموم.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى:]وَاللهُ يَدْعُوا إِلىَ داَرِ السَّلاَمِ[، فمفعول " يدعو " محذوف، لأنّه عامّ، فيشمل جميع الخلق.

ومثله قوله تعالى:]أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضاَلاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عاَئِلاً فَأَغْنَى (8)[، فمعمول الأفعال ( آوى ) و( هدى ) و( أغنى ) محذوف، وهو يعمّ النّبيّ r وغيره، ويكون المعنى - والله أعلم -: آواك وآوى بك، وهداك وهدى بك، وأغناك وأغنى بك.

7- ترك الاستفصال في حكاية الحال مع ورود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال:

هذه القاعدة نافعة جدّا استدلّ بها الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته المشهورة، وقد استدلّ بها كثير من المحققين في معالجتهم لبعض المسائل الفقهية.

· مثال عن ذلك: حين أسلم غيلان بن سلمة الثّقفي كان تحته عشر نسوة، فأمره رسول الله r أن يمسك أربعا، ويفارق الباقي منهنّ.

[رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد عن ابن عمر t]

فإن قال الحنفيّة رحمهم الله: إنّ من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، وجب عليه مفارقة آخر من تزوّجها، ويمسك الأربع الأُوَل.

قيل له: إن النّبيّ r لم يستفصل من غيلان عن آخر النسوة اللاّء تزوّجهنّ، فوجب أن يكون الأمر بمفارقة بعضهنّ عاما على النّحو الّذي يراه ويريده المكلّف.

· مثال آخر: اختلف العلماء في بول وروث ما يؤكل لحمه هل هو نجس أو لا ؟

فالشّافعية قالوا بنجاسة بوله وروثه، وأكثر أهل العلم ذهبوا إلى طهارته.

واستدلّ الجمهور بإذنه r بالصّلاة في مرابض الغنم لمن سأله(1).

فأجاب الشافعية بأنّ الإذن وُجد بشرط أن لا يكون هنالك شيء من فضلات الغنم.

فأجاب الجمهور: بأنّ النّبيّ r لم يستفصل أهناك فضلات أو لا ؟ مع أنّ الاحتمال وارد، فينزل الإذن على العموم، فكأنّه قال له: صلّ وإن وجدت فضلات الغنم.

هذا تمام الحديث عن صيغ العموم، والله أعلم.



[1]/ الحديث أخرجه أبو داود، والتّرمذي، وابن ماجه عن أبي أمامة t.

[2]/ الحديث أخرجه التّرمذي، وابن ماجه، وأحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق