الدّرس 14

الدّرس الرّابع عشر من شرح " نظم الورقات "

فصل: فِيمَنْ تَنَاوَلَهُ خِطَابُ التَّكْلِيفِ، وَمَنْ لاَ يَتَنَاوَلُهُ، وَمَنْ المُكَلَّفُ ؟

بعدما تكلّم رحمه الله عن الأحكام التّكليفية، وعن الخطاب بالأمر والنّهي الّذين بهما يتمّ التّكليف، ناسب ذلك أن يتكلّم عمّن يدخل في الخطاب، وهو المكلّف. فمن هو المكلّف ؟

قال رحمه الله تعالى:

وَالمُؤْمِنُونَ فيِ خِطاَبِ اللهِ
وَذاَ الجُنُونِ كُلُّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا
فيِ سَائرِ الفُرُوعِ للشَّرِيعَةِ
وَذَلِكَ الإِسْلاَمُ، فَالفُرُوعُ

قَدْ دَخَلُوا، إِلاَّ الصَّبيّ والسَّاهِي
وَالكاَفِرونَ فيِ الخِطَابِ دَخَلُوا
وَفيِ الَّذي بِدُونِهِ مَمْنُوعَهْ
تَصْحِيحُهاَ بِدُونِهِ مَمْنُوعُ

فاعلم أنّ شروط التّكليف بالتّوحيد والأحكام أربعة: العقل، والبلوغ، وبلوغ الدّعوة، وسلامة إحدى حاسّتي السّمع والبصر.

* فالمجنون غير مكلّف بالتّوحيد، ولا بغيره.

* والصّبي غير مكلّف بهما أيضا، ودليل هذين الحكمين قوله r: (( رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ )) [رواه النّسائي عن عليّ t].

* ومن لم تبلغه الدّعوة والحكم فهو غير مكلّف أيضا، لقوله تعالى:]وَماَ كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتىَّ نَبْعَثَ رَســولاَ[، ومتى فعل المكلّف محرّما وهو جاهل بتحريمه فلا إثم عليه، ولا يجب عليه قضاء أو كفّارة لأفعاله السّابقة.

والنّبيّ r لم يأمر المسيء صلاته بقضاء ما فات من الصّلوات، وإنّما أمره بفعل الصّلاة الحاضرة على الوجه المشروع.

[انظر " الأصول من علم الأصول "].

* ومن فقد حاسّتي السّمع والبصر غير مكلّف، لحديث الأسود بن سريع t مرفوعا:

(( أرْبَعَةٌ [يَحْتَجُّونَ] يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا [وفي رواية: رَجُلٌ أَكْمَهُ -وهو المولود أعمى-]، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ.

فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا.

وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ.

وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا.

وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ.

فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ: ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا )) [1].

والنّاظم رحمه الله ذكر المجنون والصّبي.

أمّا قوله: ( والسّاهي )، فإن كان المقصود بالسّهو هو الغفلة، أي: الغافل عن الدّعوة وفاقد حاسّتي السمع والبصر، فصحيح كما سبق بيانه.

أمّا إن أراد بقوله " السّاهي " أي النّاسي، فليس بصحيح، لأنّ النّاسي داخل في الحكم، وإنّما ارتفع عنه مقتضى الحكم من ثواب أو عقاب، وهو المعروف بموانع التّكليف.

فإنّ للتّكليف موانعَ وإن وُجِدت الشروط منها: النّسيان، والإكراه، والخطأ، للحديث المعروف: (( إنَِّ اللهَ تَجاَوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنّسيَانَ وَماَ اسْتُكْرِهُوا عَلَيه )).[2]

والمراد من الحديث: رفع إثم جميع ما وقع بذلك، أمّا الحكم فيبقى حتّى يرد الدّليل؛ فمن نسي صلاة أو نام عنها لا يأثم، ولكن يجب عليه قضاؤها.

فظهر أنّ السّاهي بمعنى النّاسي داخل في خطاب الله، وإنّما لا يلحقه مقتضى الخطاب وهو العقاب.

وهل الإسلام شرط في التّكليف ؟ فالصّحيح أنّه ليس بشرط، وهذا ما يعرف بمسألة:

هل الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة ؟

اعلم أنّهم اتفقوا على أنّ الكفاّر مخاطبون بالإسلام.

أمّا تكليفهم بالأحكام، فقد وقع الخلاف بين العلماء، والجمهور على أنّهم مكلّفون بالأحكام خلافا للحنفيّة.

قال الحنفيّة: دليل عدم مخاطبتهم بها أنّها لا تصحّ منهم، وإذا أسلموا لم يحاسبوا بما سلف منهم.

والجواب:

إنّ عدم قبول العمل منهم، لا يعارض مخاطبتهم بها، مثلهم مثل الجُنب أو المحدث حدثا أصغر، فهو مكلّف بالصّلاة ولا تقبل منه بلا طهارة، كذلك الكافر مكلّف بالصّلاة والزّكاة ولو فعلها لم تصحّ منه.

والدّليل على مخاطبتهم بها قوله عزّ وجلّ:]ماَ سَلَكَكُمْ فيِ سَقَرْ قَالُوا لمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ. ولَمْ نَكُ نُطْعمُ المِسْكِينَ[.

والدّليل على أنّها لا تقبل قوله تعالى:]وَماَ مَنَعهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاَتُهُمْ إلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ[.

أمّا إذا أسلم الكافر، فلا يؤمر بقضاء ما فاته، لقوله تعالى:]قُلْ لِلَّذينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ماَ قَدْ سَلَفْ[.

لذلك قال النّاظم:

( ……………...………………
فيِ سَائرِ الفُرُوعِ للشَّرِيعَةِ
وَذَلِكَ الإِسْلاَمُ، فَالفُرُوعُ

وَالكاَفِرونَ فيِ الخِطَابِ دَخَلُوا)
وَفيِ الَّذي بِدُونِهِ مَمْنُوعَهْ )
تَصْحِيحُهاَ بِدُونِهِ مَمْنُوعُ)

والفروع الّتي تنبني على هذا الأصل كثيرة.

من ذلك: بيع العنب للكافر وأنت تعلم أنّه سيتخذه خمرا، فشرب الخمر حرام على المسلم اتّفاقا. فهل هي حرام على الكافر ؟ إن قلنا الكفّار مخاطبون بالفروع كانت حراما عليه ومن ثمّ لا يجوز بيعها له. وإن قلنا إنّهم غير مخاطبين بالفروع جاز. والله أعلم.

قال الإمام الشّوكاني في "نيل الأوطار" (5/121) بعد ما تكلّم حول الخمر وغيرها:" وأمّا تحريم بيعها على أهل الذمّة فمبني على الخلاف في خطاب الكافر بالفروع ".

هذا ختام الكلام حول هذا الفصل والله الموفّق لا ربّ سواه.



[1]/ الحديث أخرجه أحمد، وابن حبان، والبزّار، وقال الهيثمي في" مجمع الزّوائد " (7/219):"رجاله رجال الصّحيح ".

ورواه البيهقي في " الاعتقاد " (169)، وإسحاق بن راهويه في " مسنده "، وأبو نعيم في " الحلية "، والطّبراني، ونقل ابن القيم في " طريق الهجرتين " (ص522) عن الإمام عبد الحقّ الإشبيلي تصحيحه وأقرّه، وصحّحه السّيوطي في " مسالك الحنفا "،ولقد قال الحافظ في " الإصابة " (4/118):" ورد الحديث من عدّة طرق في حقّ الشّيخ الهرم، ومن مات في الفترة، ومن ولد أكمه، ومن ولد مجنونا، أو طرأ عليه الجنون قبل أن يبلغ ونحو ذلك، وإنّ كلاّ منهم يدلي بحجّته يوم القيامة ... وقد جمعت طرق الأحاديث في ذلك في جزء مفرد " اهـ.

وإنّما ذكرنا كلّ هؤلاء العلماء المصحّحين للحديث؛ لأنّ كثيرا ممّن يكفّر عوامّ المسلمين يتشبّث بتضعيف بعض العلماء له، كابن عبد البرّ رحمه الله.

[2]/ أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/56)،والدّارقطني (497)،والحاكم (2/198)،وابن حزم في"الإحكام"(5/149) عن ابن عبّاس مرفوعا، وصحّحه الحاكم ووافقه الذّهبي،وصحّحه ابن حزم وابن حبّان وقال النّووي في "الأربعين":حديث حسن.[إرواء الغليل (1/123)]،وهناك أفاد أن الرواية المشهورة بلفظ "رُفِعَ" منكرة.والله أعلم].

0 التعليقات:

إرسال تعليق