الدّرس 13

الدّرس الثاني عشر من شرح " نظم الورقات "

تابع: بَابُ النَّهْيِ

سبق بيان أنّ الأصل في النّهي أنّه يفيد الفساد، إلاّ إذا كانت هناك قرينة، فيقال: إنّه للتّحريم دون الفساد، والقرائن هي:

1) النصّ: ومن الأمثلة على ذلك:

· ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r أَنْ يُتَلَقَّى الْجَلَبُ )).

فالظّاهر من النّهي هو التّحريم المقتضِي للفساد كذلك، ولكنّ الصّحيح أنّ البيع صحيح مع الإثم، وذلك لحديث مسلم نفسه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: (( لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ )).

ووجه الدّلالة أنّ إثبات الخيار للبائع ينفي البطلان، وهو مذهب مالك والشّافعيّ وأحمد في المشهور عنه ["المغني" (4/281)، و" فتح الباري " (4/281)].

· من المعلوم أنّ الطّلاق في الحيض هو طلاق بدعي يحرم القيام به. وهذا محلّ اتفاق لدى العلماء. لكنّهم اختلفوا في وقوعه وعدمه.

فالجمهور على أنّه يقع طلقةً واحدة، فهو لديهم صحيح مع الإثم.

وبعض الحنابلة لا يعتدّون به، لثبوت النّهي عنه، والأصل في النّهي الفساد، وهو اختيار شيخي الإسلام رحمهما الله تعالى.

لكنّ الدّليل قام على أنّه ليس فاسدا، وهو قوله r لِعُمَرَ بن الخطَّاب عن ابنه: (( مُرْهُ فَلْيُراَجِعْهاَ ))، فالأمر بالمراجعة دليل على اعتبار الطّلاق واقعا، وإلاّ فالفاسد لا مراجعة فيه. والله أعلم[1].

2) اتّفاق الأئمّة ( أي: لا يعلم قائل بأنّه يفيد الفساد ):

ومن ذلك نهي النبيّ r عن الاختصار في الصّلاة، واشتمال الصمّاء، والسّدل، والإقعاء، ورفع البصر إلى السّماء، والالتفات، ونحو ذلك.

3) النّظر والقياس:

ومثال على ذلك قوله تعالى:]فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ[.

فإنّ الحنابلة قالوا ببطلان البيع، والّذي يظهر أنّه محرّم لا فاسد، لأنّ النّهي لم ينصبّ على البيع ذاته، ولكنّه انصبّ على الانشغال عن العبادة بالبيع، بدليل أنّه يصحّ بيع من لم تجب عليه الجمعة، كالمرأة والعبد والصّبيّ والمسافر.

5) المبحث الخامس: هّلْ النَّهْيُ يَقْتَضِي الفَوْرَ والتَّكْراَرَ ؟

سبق أن علمنا أنّ الأمر للفور إلا لقرينة، وأنّه ليس للتَّكرار إلاّ لقرينة.

أماّ النهي فهو للفور والتكرار، لأنّ الامتثال في باب النّهي لا يتحقق إلاّ بالمبادرة إلى الامتناع عن الفعل حالا، والاستمرار على هذا الامتناع، قال تعالى:]وَماَ نَهاَكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[.

6) المبحث السّادس: خروج صيغتي النّهي والأمر عن الأصل فيهما.

* أمّا النهي: فقد سبق بيان أنّ الأصل في النّهي التحريم، وقد يخرج عن التّحريم لقرينة تقتضي ذلك، ومن المعاني التي يصرف إليها النهي:

1- الكراهة: وقد سبق بيان ذلك كحديث الترمذي عن أنس (( نَهَى النَّبِيّ ُr أنْ ينتَعِلَ الرَّجُلُ وهُوَ قاَئِمٌ )).

2- الإرشاد: كقوله r: (( لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئاً )) [ رواه مسلم عن أبي ذرّ t].

3- الدّعاء: نحو قوله تعالى:]ربَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا[.

4- التحقير: نحو:]لاَ تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ {.

5-بيان العاقبة نحو:]وَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا[، أي: إنَّ عاقبة الجهاد: الحياة لا الموت.

6-التأييس: نحو:]لاَ تَعْتَذِروُا اليَوْمَ[.

* أمّا الأمر، فصيغة الأمر قد تخرج عن أصلها إلى غيره لقرائن، من ذلك:

1- النّدب:وقد مرّ بيان ذلك، نحو قوله تعالى:]ياَ أَيّها الذِين آمَنوُا إِذاَ تَداَيَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىَ أَجَلٍ مُسَمَّى فَاكْتُبُوهُ[، وقوله r: (( تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فيِ السَّحُورِ بَرَكَةً )).

2- الإباحة: وقد مرّ بيان ذلك، نحو قوله تعالى:]وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا[.

3- التسوية:نحو:]اصْبِرُوا أَو لاَ تَصْبِرُوا[.

4- التهديد: نحو:]اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ[.

5- التّكوين: نحو:]كُنْ فَيَكُونُ[.

وقد أشار الناظم رحمه الله تعالى إلى ذلك فقال:

وَصِيغَـةُ الأَمْــرِ الَّـتِي مَـضَـتْ تَـــرِدْ

كَمَا أَتَتْ وَالقَصْدُ مِنْهَا التَّسْوِيَهْ

والقَصْدُ مِنْهَا أَنْ يُبَاحَ مَا وُجِدْ
كَذَا لِتَهْدِيدٍ وَ تَكْوِينٍ هِيَهْ

ومن المعاني التي لم يذكرها:

6- الإرشاد: والفرق بينه وبين النّدب أنّه لمصلحة دنيويّة فحسب، كالأوامر الثّابتة في التّداوي بالحنّاء ونحوها.

7- الإنذار:]قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ[، والفرق بين الإنذار والتّهديد، أنّ الإنذار يقترن بوعيد.

8- الامتنان:]وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ[.

9- الإكرام:]ادْخُلُوا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ[.

10- التعجيز:]فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ[.

11- التحقير:]أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ[.

12- الاعتبار:]انْظُرُوا إِلَى تَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ[.

13- الإخبار:نحو: (( إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ )) أي: صنعت ما شئت. [رواه البخاري عن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري الأنصاري].

وهذا تمام الكلام على النّهي والأمر وما يتعلّق بهما من مباحث، وهما أصل الأحكام التكليفية، إذ بهما تعرف وتظهر، فناسب ذلك أن نعرف من هو المكلَّفُ، وذلك في الفصل التالي، وهو ليس من أبواب أصول الفقه، وإنّما هو من مباحث علم التوحيد.



[1]/ ومن أحسن من تكلّم فيها الإمام ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد" إلاّ أنّه اختار عدم الوقوع وِفَاقاً لشيخ الإسلام ابن تيمية،وبنوا قولهم على كثير من النّظر وهو قويّ جدّا،إلا أنّ الآثار الصحيحة تقضي بوقوعه،وانظر أعظم تخريج لها في "إرواء الغليل".

0 التعليقات:

إرسال تعليق