الدّرس 12

الدّرس الثاني عشر من شرح " نظم الورقات "

بَابُ النَّهْيِ

لم يفصّل النّاظم تبعا لصاحب المتن في هذا الباب تفصيله في باب الأمر، حيث اكتفى بتعريف النّهي، ثمّ بيان أنّ النّهي عن الشّيء أمرٌ بضدّه والعكس، ثمّ انتقل رحمه الله إلى مبحث من مباحث الأمر، وهو خروجه عن أصله.

لذلك كان علينا لزاما أن نحصر مسائل باب النّهي في مباحث ستّة، وهي:

1- حدّ النّهي وصيغه. 2- حكم صيغ النّهي. 3- هل الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه، وهل النّهي عن الشّيء أمرٌ بضدّه ؟ 4- هل النّهي يقتضي الفساد ؟ 5- هّلْ النَّهْيُ يَقْتَضِي الفَوْرَ والتَّكْراَرَ ؟ 6- خروج صيغتي النّهي والأمر عن الأصل فيهما

1) المبحث الأوّل: حدّ النّهي وصيغه:

أمّا حدّه لغة فهو: المنع، أو ضدّ الأمر، وسمّي العقل "نُهْيَة" وجمعه "نُهىَ" لأنّه يمنع صاحبه من الوقوع في القبيح.

اصطلاحا: هو طلب الكفّ على وجه الاستعلاء.

قال النّاظم رحمه الله:

تَعْرِيفُهُ، اسْتِدْعَاءُ تِرْكٍ قَدْ وَجَبْ

بِالقَــوْلِ ممَّنْ كاَنَ دُونَ مَــنْ طَــلَـبْ

وقوله: " اسْتِدْعَاءُ تِرْكٍ قَدْ وَجَبْ " فيه نظر؛ لأنّه مخرج للمكروه، والمكروه منهيّ عنه كذلك.

وقوله: " بِالقَوْلِ " يرِدُ عليه ما ورد على تعريفه للأمر.

أمّا صيغه: فأشهرها ستّ:

1- صيغة " لا تفعل" كقوله تعالى:]وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى[.

2- التّعبير بمادّتي النّهي والتّحريم والكراهة،كقوله تعالى:]وَيَنْهَى عَنِ الفَحشاَءِ وَالمُنْكَرِ[، و:]حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المـيْتَةُ[، و]إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ[.

3- نفي الحِلّ: كقوله تعالى:]فَإِنْ طَلَّقَهاَ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ[.

4- الأمر يالتّرك، كقوله تعالى:]فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ[.

5- ذمّ الفعل وترتيب العقاب عليه، كقوله تعالى:]وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)[ [النّساء].

6- التّحذير: كقوله r: (( إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ )) [متّفق عليه].

2) المبحث الثّاني: حكم صيغ النّهي.

مذهب جمهور أهل العلم أنّ النّهي يقتضي التّحريم إذا لم تكن هناك قرينة صارفة إلى غيره، وذلك:
أ‌) لقوله تعالى:]وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[.
ب‌) إنّ الصّحابة والتابعين y لم يزالوا يحتجّون بالنّهي على التّحريم، وهم أعلم النّاس بدلالات الألفاظ.
ت‌) إنّ فاعل ما نهي عنه عاص إجماعا، والعاصي يستحقّ العقاب، وكل ما ترتّب عليه عقاب فهو حرام.

والقرائن الّتي يمكن أن تصرف النّهي إلى غيره هي:

1- النّص:

من الأمثلة على ذلك:

· قول أمّ عطيّة رضي الله عنها:( نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا ) [رواه البخاري ومسلم].

فاتّباع الجنائز مكروه للنّساء، والدّليل الصّارف للنّهي عن حقيقته هو قولها: ( وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا )، أي: النّهي عن ذلك لم يكن عزيمة.

· وروى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: (( لاَ يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِى الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ )).

فظاهر النّهي يفيد التّحريم، وهو مذهب الحنابلة، بل قال بعضهم ببطلان صلاة مكشوف العاتقين.

ولكنّ مذهب جمهور العلماء من المالكيّة والحنفيّة والشّافعيّة - وهو رواية عند الحنابلة - استحباب ستر العاتقين، وأنّ النّهي عن الصّلاة مكشوف العاتق إنّما هو خشية أن يقع الإزار إذ لا شيء يمسكه عن الوقوع فتنكشف العورة.

والقرينة الصّارفة للنّهي عن التّحريم ما رواه البخاري ومسلم أنّ النبيّ r حين رأى جابراً t صلّى في ثوب واحد قَالَ: (( إِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ )).

ووجه الدّلالة أنّ النبيّ r جوّز له الصّلاة مكشوف المنكبين إذا ضاق الثّوب، وإنّما أمره بأن يلقيه على منكبيه إذا اتّسع استحبابا[1].

2- اتّفاق العلماء:

فإذا ثبت نهي عن شيء ما، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم بالتّحريم، علمنا أنّه مكروه فحسب. ومن الأمثلة على ذلك:

· حديث عبد الله بن مغفل t قال:(نَهَى رَسُولِ اللهِ r عَنِ التَّرَجُّلِ إَلاَّ غِباًّ)[2].

فظاهر النّهي هو التّحريم، لكنّ العلماء قالوا بالكراهة.

· ومثله حديث: ( نَهىَ رَسُولُ اللهِ r أَنْ يَنْتَعِلَ الرَّجُلُ قَائِماً )[3].

فهذا النّهي إنّما هو للكراهة والتّأديب؛ لأنّه لا يُعلم أحدٌ قال بالتحريم.

3) المبحث الثّالث: هل الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه، وهل النّهي عن الشّيء أمرٌ بضدّه ؟

هذه المسألة من مباحث الأمر، ذكرها المصنِّف في باب النّهي لأنّه مقابل للأمر.

والسّلف وعلماء أهل الحديث وجمهور الأصوليّين على أنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه، لأنّه لا يمكن فعل المأمور به إلاّ بترك ضدّه وهو النّهي، ومن خالف في ذلك فإنّما هم أهل الكلام.

ولا يختلف اثنان أنّ الأمر بالإيمان نهي عن الكفر، والأمر بالجود نهي عن البخل، وإذا أُمِر المكلّف بالقيام أثناء القراءة في الصّلاة، كان ذلك نهياً عن الجلوس، وغير ذلك.

وهذا ما قرّره النّاظم بقوله:

وَأَمْرُناَ بِالشَّيءِ نَهُيٌ ماَنِعُ

مِنْ ضِدِّهِ، وَالعَكْسُ أَيْضاً واَقِعُ

إلاّ أنّه يجب تقييد ذلك بقوله: الأمر الدال على الوجوب نهي عن ضدّه. ذلك لأنّ الأمر الدّال على النّدب ليس نهيا عن تركه حتى يكون مكروها.

أماّ قوله: ( وَالعَكْسُ أَيْضاً واَقِعُ ) فهو على إطلاقه، أي: إن النّهي عن الشّيء أمر بضدّه، سواء كان النّهي للتّحريم أو للكراهة، والله أعلم.

4) المبحث الرّابع: هل النّهي يقتضي الفساد ؟

خلاف كبير في هذه المسألة، وهذا إذا لم تكن هناك قرينة تدلّ على الفساد، قال الإمام الشّوكاني رحمه الله تعالى:

" والحقّ أنّ كلّ نهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي وفساده المرادف للبطلان اقتضاءً شرعياً، ولا يخرج عن ذلك إلاّ ما قام الدّليل على عدم اقتضائه لذلك. وممّا يستدل به قوله r: (( كُلُّ أمْرٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُناَ فهُوَ ردٌّ )) والمنهيّ عنه ليس عليه أمرنا، فهو ردّ، وما كان مردودا فهو باطل، وهذا هو المراد بكون النّهي مقتضيا للفساد " [" إرشاد الفحول "].

ومن الأمثلة على ذلك:

· ما رواه البخاري ومسلم – واللّفظ له – عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r ( نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ ).

فظاهر النّهي أنّه للتّحريم المقتضَي للفساد أيضا، قال ابن قدامة رحمه الله في " المغني " (3/97):" أجملع العلماء على أنّ صوم يومي العيد منهيّ عنه، محرّم في التطوّع والنّذر المطلق والقضاء والكفّارة ... والنّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه وتحريمه ".

· وروى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ t (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r نَهَى عَنْ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ )).

فظاهر النّهي هو التّحريم المقتضِي للفساد، وبذلك قال الجمهور، أمّا أبو حنيفة رحمه الله فذهب إلى تصحيحه بفرض صداق المثل، والصّواب هو مذهب الجمهور، لانعدام القرينة الصّارفة عن الأصل. [" المغني " (7/528)، و" بداية المجتهد " (2/93)].

ومن ذلك كثير من المسائل، كصلاة الحائض والنّفساء وصيامهما، وبيع الحصاة، وبيع الغرر ( كبيع الحمل، والمعدوم )، وكبيع ما لا يملك، والصّلاة أوقات النّهي – إلاّ إذا كانت قضاءً لفريضة أو من ذوات الأسباب -، ونحو ذلك.

فالنّهي يقتضي الفساد، ما لم تكن هناك قرينة.

أمّا لو ثبتت القرينة، فإنّه يقال إنّ النّهي يفيد التّحريم دون الفساد.



[1]/ من أجل هذا الحديث ذهب بعض العلماء إلى وجوب ستر العاتقين إذا كان الثّوب واسعا لأنّه قادر على ستره، وجواز الصّلاة إذا كان الثّوب ضيّقا، وإليه ذهب ابن المنذر –كما في " الأوسط في السّنن والإجماع والاختلاف " لابن المنذر (5/55)- وابن حزم (4/71).

فعلى الأقل لو قالوا بوجوب ستره إن كان واسعا لكان له وجه، لذلك قال الشّوكاني رحمه الله في "نيل الأوطار"(2/60): " القول بوجوب طرح الثّوب على العاتق والمخالفة من غير فرق بين الثّوب الواسع والضيّق تركٌ للعمل بهذا الحديث، وتعسير منافٍ للشّريعة السّمحة".

[2]/ الترجّل: هو الامتشاط، و" غِبّاً ": أحيانا.

والحديث رواه أحمد وأصحاب السنن إلاّ ابن ماجه، انظر" الصّحيحة "(رقم 501).

[3]/ الحديث رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله t.

هذا إذا كانت النّعال تحتاج إلى قعود عند لبسها، والعلّة في ذلك ما قاله الخطّابي-كما في " عون المعبود ":" إنّما نهى عن لبس النّعل قائما لأنّ لُبسها قاعدا أسهل عليه وأمكن له، وربّما كان ذلك سببا لانقلابه إذا لبسها قائما، فأُمِر بالقعود له والاستعانة باليد فيه ليأمن غائلته " اهـ. ونقل صاحب " تحفة الأحوذي " عن بعض أهل العلم قوله: " هذا فيما يلحقه التعب في لبسه كالخفّ والنّعال الّتي تحتاج إلى شدّ شراكها ".

0 التعليقات:

إرسال تعليق