الدّرس 11

الدّرس الحادي عشر من شرح " نظم الورقات "

تابع: بَابُ الأَمْرِ

3) المبحث الثّالث: هل الأمر يقتضي الفور ؟

اختلف العلماء في الأمر، هل يفيد الفور، أو هو على التَّراخي، أو هو على إطلاقه حتّى يرد ما يصرفه إلى أحدهما ؟ فهذه ثلاثة أقوال.

واعلم أنّ محلّ الخلاف عند انعدام القرائن، وتحرير القول في ذلك أن يقال:

إنّ الأمر إماّ مقيّد بوقت، أو غير مقيّد بوقت، كما مرّ.

فإن كان مقيّدا بوقت ننظر: إماّ أن يكون وقته موسّعا أو مضيّقا، فالموسّع يجوز تأخيره إلى آخر الوقت، والمضيّق لا يحتمل التّأخير، وهذا محلّ اتّفاق.

فيبقى محلّ الخلاف في الأمر غير المؤقّت كالأمر بالكفّارات، والحجّ، وإخراج الزّكاة، وغير ذلك.

فالّذي عليه أكثر المحقّقين أنّه يفيد الفور، لأنّ المأمور إن مات ولم يفـعل ما أمر به فهو إمّا آثم أو غير آثم، فإن كان غير آثم فما فائدة الأمر؟ وإن قلنا " آثم " فوجب الاحتراز من الوقوع في الإثم، ولا يتمّ ذلك إلاّ بفعل المأمور به على الفور.

ومذهب الشّافعية أنّه للتّراخي، ولمّا كان النّاظم شافعيّاً قال:

( وَلمْ يُفِدْ فَوْراً .......... ............................... ).

ومن الأمثلة على ذلك:

- اختلف الشّافعي وأبو حنيفة في الحجّ، أهو على الفور أم التّراخي ؟

فالشّافعي قال: من أخّره وهو متمكّن من أدائه لا يكون عاصيا. وقال أبو حنيفة بالعكس.

- ونرى كليهما خالف أصله في مسألة، وهي إذا هلك النصاب بعد الحول والتمكن من إخراجه، هل يضمنه أو لا ؟ فالشّافعي يقول بالضّمان؛ لأنّ الأمر بالزّكاة عنده على الفور، خلافا لأبي حنيفة.

- وقد يخرج الأمر عن الفورية بدليل، كقضاء رمضان، فإنّ الأصل أنّه على الفور، لكنّ الدّليل ثبت بأنّه على التّراخي، فعن عائشة قالت: (( كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ )) [أخرجه الجماعة].

4) المبحث الرّابع: هل الأمر يقتضي التّكرار؟

اعلم أنّ محلّ الخلاف في هذه المسألة أيضا إنّما هو حيث انعدمت القرائن الدالّة على تكراره.

فالرّاجح هو مذهب الجمهور: أنّ الأمر لا يقتضي التّكرار، إلاّ إذا قيّد بشرط، أو سبب، أو وصف.

ذلك لأنّ الأمر المطلق يدلّ على مجرّد طلب إيقاع الفعل المأمور به، وذلك يتحقّق بفعله مرّة واحدة.

ويدلّ على ذلك: ما رواه مسلم وأحمد والنّسائي عن أبي هريرة t قال:

خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ r فَقَالَ: (( ياَ أَيُّهاَ النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ الحَجَّ فَحُجُّوا )) فَقَالَ رَجُلٌ: (( أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثاً، فَقَالَ النَّّبِيُّ r: (( لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَماَ اسْتَطَعْتُمْ )).

ووجه الدّلالة أنّ السّائل – وهو الأقرع بن حابس t - لم يفهم من الأمر المطلق ( فحجّوا ) أنّه يقتضي التّكرار، ولو فهم ما ساغ له السّؤال، وقد أكّد النّبيّ r هذا الفهم، فقال: (( لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ))، ثُمَّ قَالَ: (( ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ )).

إذا فقهت هذا الأصل علمت أنّ قول كثير من الفقهاء " إنّ التيمّم يجب لكلّ صلاة، ولو لم يحدث " مخالف لما قرّروه في الأصول.

هذا في الأمر المطلق.

أماّ لو قيّد بشرط، أو سبب، أو وصف، فهو يقتضي التّكرار، قال النّاظم:

( وَلَمْ يُفِدْ فَوْراً، وَلاَ تَكْراراً إِنْ لَم يَرِدْ ماَ يَقْتَضِي التَّكْرارَا )

* مثال عن الأمر المقيّد بشرط: قوله تعالى:]إِذاَ قُمْتُمْ إلىَ الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلىَ المَراَفِقِ[، فمن كان محدثا وأراد الصّلاة، وجب عليه الوضوء، ثمّ إذا أحدث مرّة ثانية وجب الوضوء كذلك، أمّا لو توضّأ ولم يحدث فلم يوجب الشّارع عليه وضوءًا.

* مثال عن الأمر المقيّد بسبب: قوله تعالى:]أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ[، فكلّما زالت الشمس عن كبد السّماء وجبت الصلاة.

* مثال عن الأمر المقيّد بوصف: قوله تعالى:]الزَّانيَةُ وَالزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُماَ مِائَةَ جَلْدَةٍ[، فإن زنى البكر وقامت عليه البينة وجب عليه الحدّ، فإن زنى مرّة ثانية وجب عليه الحدّ مرّة أخرى.

5) المبحث الخامس: مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.

مذهب الجمهور أنّ الأمر بالشّيء يقتضي وجوب ما يتوقّف عليه فعل المأمور به، كالسيّد إذا أمر العبد بالصّعود إلى السّطح، فإنّ العبد مأمور بنصب السّلم الّذي يحصل به الصّعود إلى السّطح.

وعلى هذا الأصل ينبني قول العلماء بوجوب طلب الماء للطّهارة.

وقولهم بوجوب شراء الماء بثمن المثل إذا فقده المسلم.

وقولهم: يجب تكوين الدّعاة إلى الله تعالى، لأنّ الدّعوة إلى الله من أهمّ الواجبات.

قال النّاظم رحمه الله:

وَالأَمْرُ بِالفِعْلِ المُهِمَِ المُنْحَتِمْ
كَالأَمْرِ بِالصَّلاَةِ أَمْرٌ بِالوُضُو

أَمْرٌ بِهِ وَ بِالذِي بِهِ يَتِمْ
وَكُلِّ شَيءٍ لِلصَّلاَةِ يُفْرَضُ

وظاهرٌ لدى الطالب أنّ تمثيله للمسألة بالوضوء فيه نظر، لأنّ الوضوء مأمور به لذاته.

وكذلك يدخل القصور في تخصيصه المسألة بالواجب حيث قال: ( والأمر بالفعل المهمّ المنحتم )، فإنّ العلماء يقولون كذلك: ما لا يتمّ المندوب إلاّ به فهو مندوب، كالاستياك، فإنّ حكمه النّدب، ولا يمكن التسوّك إلاّ بشراء السّواك، فيكون حكم شراء السِّواك مندوبا كذلك.

6) المبحث السّادس: هلْ يَقْتَضِي فِعْلُ المَأْمُورِ بِهِ الإِجْزَاءَ ؟

قال النّاظم رحمه الله:

وَحَيْثُماَ إِنْ جِيءَ بِالمَطْلُوبِ

يُخْرَجْ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الوُجُوبِ

هذا هو الرّاجح من أقوال العلماء، أي: متى قام المكلّف بالمأمور به أجزأه ذلك، ومن فروع ذلك:

* أنّ من لم يجد ماء ولا صعيدا طيّبا ودخل عليه وقت الصّلاة، فهو مأمور بالصّلاة، فإذا صلىّ ثمّ وجد ماءً أو صعيدا هل يعيدها ؟

فبناءً على القاعدة السّابقة فإنّه لا يعيدها، وهو قول أشهب من المالكيّة.

* ومن صلىّ مجتهدا إلى غير القبلة، ثمّ تبيّن له خطؤه، هل يؤمر بالإعادة أو لا ؟ فبناء على هذه القاعدة فإنّه لا تلزمه إعادتها.

7) المبحث السّابع: هلْ الأَمْرُ بِالشَّيءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّه ؟

هذا المبحث ذكره النّاظم في باب النّهي، لذلك سنرجئه إلى حينه.

8) المبحث الثّامن: الأمر بالأداء ليس أمرا بالقضاء ؟

الرّاجح هو قول جمهور العلماء: أنّ القضاء لا يجب بالأمر الأوّل، وإنّما يجب بأمر جديد، لأنّ الأمر لا يتناول غير الوقت المقدّر، ألا ترى أنّ السيّد إذا قال لعبده: اعمل يوم الخميس، فإنّ قوله ذلك لا يتناول يوم الجمعة.

ولذلك اختلف الفقهاء فيمن وجب عليه صوم يوم بعينه لأجل أنّه نذره، فلم يصمه أو أفسده، هل يجب عليه قضاؤه أو لا يجب ؟

فبناءً على القاعدة يكون الرّاجح أنّه لا يجب عليه قضاؤه، إذ ليس عندنا أمر جديد في هذه المسألة يوجب القضاء، ويبقى إثمه عظيما لا يكفّره القضاء.

وإنّما وجب القضاء في على المواقع لأهله في نهار رمضان لنصّ جديد، وهو حديث أبي هريرة في الصّحيحين، ووجب قضاء الصّوم على المفطر لسفر أو مرض لوجود أمر جديد وهو قوله تعالى:]فَمَنْ كاَنَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىَ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَياَّمٍ أُخَرَ[.

وإذا فهمت هذا الأصل تبيّن لك أنّ قول الجمهور في الرّجل يترك الصّلاة عمدا حتّى يخرج وقتها:" إنّه يقضيها "، مخالف لأصلهم المقرّر هنا، إذ ليس هناك أمر جديد يوجب القضاء، والقضاء لا يمكن أن يكون كفاّرة عن هذا الإثم العظيم، بل أمره إلى الله، وبهذا أخذ ابن حزم، وابن حبيب الأندلسي المالكي، وابن تيمية، وابن القيّم، والعزّ بن عبد السّلام، وإنّما وجب القضاء على النّائم والنّاسي لوجود أمر جديد، وهو حديث: (( مَنْ نسي صَلاَةً أَوْ نامَ عنهاَ فَكفّارتها أن يُصَلِّيَهاَ إِذاَ ذَكَرَهاَ )).

[رواه مسلم عن أنس، وقد رواه البخاري لكنه ذكر النّسيان فحسب].

ومن الأمثلة على عدم وجوب القضاء لانعدام الأمر الجديد، العدّة والحداد، فمن عصت الله تعالى ولم تعتدّ من طلاق أو وفاة فلا قضاء عليها للقاعدة، والله أعلم.

هذه ثمانية مباحث في الأمر وننتقل الآن إلى ما يقابله وهو: بَابُ النَّهْيِ.

0 التعليقات:

إرسال تعليق