وقفات تربويّة على السّاحة الدّعويّة




من شعارات النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوته

الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة والتّسليم على أشرف المرسلين، محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

فتعالوا بنا هذه المرّة – معاشِر القرّاء – إلى مكّة ..

إلى تلك البقعة الّتي يعيش بها أحبّ خلق الله، ومن تبِعه من صفوة عباد الله، وهم تحت وطأة أعداء الله ..

تعالوا بنا لنقف مع هذه الحادثة.

روى البخاري في "التّاريخ الكبير" (7/51)، والبيهقيّ في "الدّلائل" (2/186) عَنْ عَقِيل بْن أبِي طَالِب قالَ:

" جَاءتْ قُريشٌ إلَى أبِي طَالب، فقالُوا: إنّ ابنَ أخِيكَ هذا قد آذانا فِي نادينا، فَانْهَهُ عنّا !

فقال: يا عقيل ! ائْتِنِي بمحمَّد.

قال: فانطلقْت إليه، فاستَخْرَجته من بيت صغيرٍ، فجاء به في الظّهيرة في شدّة الحرّ، فجعل يطْلبُ الفيْءََ يمْشي فيه من شِدّة حرِّ الرّمْضَاء، فلمّا أتَاهم قال أبو طَالب:

إنَّ بَنِي عمِّك هؤلاء زعمُوا أنّك تُؤْذيهِم فِي نادِيهم ومسْجِدهم، فانْتَهِ عَن أذاهم !

وفي رواية ابن إسحاق:

[فقام إليه عُتبَة حَتّى جلس إلى رسُول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:

يا ابن أخِي ! إنّك منَّا حيثُ علمت من السِّطة في العشِيرَة والمكان في النّسب، وإنّك قد أتيْت قومَك بأمْر عَظيم فَرّقْت به جَماعتَهم، وسفّهْت به أحلاَمَهم، وعِبْتَ به آلِهتَهم ودينَهُم، فاسْمع

منِّي أعْرضْ عليكَ أمُوراً تنْظرُ فيها لعلّك تقبلُ منها بعضَها.


فقال له رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( قُلْ يَا أَبَا الوَلِيدِ أَسْمَعْ )).

قال: يا ابْنَ أخِي ! إن كنْتَ ترِيدُ بِما جِئْت به من هذا الأمْر مالاً جمعنَا لكَ من أموالِنا حتّى تكون أكثرَنَا مالاً، وإن كنْتَ تريد به شَرفاً سوّدناك علينا حتّى لاَ نقْطعَ أمراً دونَك، وإن كنْت

تريدُ به مُلكاً ملّكْناكَ عليناَ، وإن كان هذا الذّي يأتِيكَ رِئْيا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طَلبْنا لك الطبّ، وبذَلْنا فيه أموالَنا حتّى نُبْرِئك منه].


فحَلَّق النبَيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبصَره إلى السّماءِ، وقالَ: (( أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ ؟ )).

قالُوا: نعَم. قالَ:


(( مَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً )).

فقال أبو طالب: واللهِ ما كذَبَنا ابْن أخِي قَط، فارجِعُوا ".

فأدعوك لتقف معي ونضع أيدينا على مبادئ عظيمة، وأركان شديدة من مبادئ وأركان الدّعوة الصّادقة.

الشّعار الأوّل: ( لا تـنـازل )


· فقد كان بإمكانه صلّى الله عليه وسلّم أن يتنازل لمصلحة الدّعوة المزعومة، وليرفع نوعا من البلاء عن إخوانه، ويدخل في نادي المنكر..

ومع الأيّام يصل بهم إلى المقصود والهدف المنشود ..


وليس من السّهل أن ينقادَ له بهذه المفاوضات أمثال أبي جهل، وعقبة بن أبي معيط، وعتبة بن ربيعة، وغيرهم من أساطين الكفر والشّرك ..

ولكنّه لم يفعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..

وكيف يتنازل، والله تعالى خاطبه قائلا:{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً

(74) إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) } [الإسراء] ؟


إنّه قد يتنازل عن حقّه: يُؤْذَى فيصبِرُ .. يسيلُ دمُه فيمسحُه ويحتسبُ .. يضعون النّجاسةَ عليه وهو ساجدٌ لربّه ويكتفي بالدّعاء ..

وكان الصّحابة يتهافتون عليه يبكون جراحَهم، ويشكون أقراحَهم، فيأمرُهم بالصّبر ..


أمّا التّنازل عن الإيمان، حتّى يختلط الإسلام بالكفران، والطّاعة بالعصيان فلا ..

هذا جانب الصّدق في دعوته .. يُضرب به المميّعون ..

وكان عرضُ قريش هذا هو أوّلَ رشوةٍ قدّمتها للنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..

وأيّ رشوة ؟

ملكٌ، وشرفٌ، ومكانةٌ عاليةٌ، ممّا يعتبرها كثير من المعاصرين الّذين يتنازلون عن بعض مبادئ العقيدة والشّريعة مكسبا سياسيّا ..

وهذا دأب الأنبياء والمرسلين والمصلحين، فقد ذكر لنا القرآن في كثير من المواطن أنّ الأنبياء قوبلوا بهذه العروض، فكان شعارهم:

{ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ } [هود: من الآية29]..


وهذه بلقيس أرادت أن تُلجم سليمان عليه السّلام بهديّة ..

قال تعالى يحكي قولها:{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ

(36)} [النّمل]..


· الشّعار الثّاني: ( لا تـحـايُـل ) ..


فمن هذه الحادثة نرى دعوة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها شعاران عظيمان ..

يبيّن من خلالهما حقيقةَ الدّعْوةِ بين المتساهِلين المميِّعِين، والمتشدّدين المشوِّهين ..

إنّه في الشّعار الأوّل: لم يتنازل لأنّه صادق ..

وفي الشّعار الثّاني: لم يتحايل لأنّه أمين ..

فكان حقّا الصّـادق الأمـيـن ..

انظر إلى جانب الأمانة في دعوته، ليُضرب به المنفّرون .. فقد كان بإمكانه أن يحتال عليهم .. وما المانع من ذلك ؟

فسِياطُهم على ظهره وظهور أصحابه ..

وأموالهم ودائع محفوظة عنده ..

ومع ذلك لم يفكّر قط في سلبها انتقاما لأنّه أمـيـن.

الأمين الّذي علّم البشريّة جميعها: (( أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ))..

كان يستطيع أن يقبل عرضَهُم المُغْري فيتربّع على العرش أيّاما، حتّى إذا أعدّ جيشا، أغار عليهم ..

ولكنّه الّذي أعلنها صراحةً - كما في صحيح مسلم-: (( نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ )).

فلن يخون مسلما ولا كافرا ولا مشركا مهما كانت الأسباب ..

لم يكُن شعارُه أبدا شعارَ اليهود:{ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [آل عمران: من الآية75]..

فالدّعوة عقيدة إمّا أن تكون خالصة للرّحمن، أو تكون من حظّ الشّيطان ..

هذا هو الفرق بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين من شوّهوا الإسلام فأعاقوه أكثر ممّا أعاقه أعداؤه ..

تراهم يستبيحون أموال مخالفيهم وأعراضَهم ..

بل وأموال وأعراض المسلمين، ويسمّونها زورا ( غنيمة )! وتالله إنّها لذلّ وهزيمة.

· الشّعار الثّالث: ( خَلُّوا بَيْننا وبينَ النّاس ).


يُستفاد من الحادثة الّتي بدأنا بها مقالنا هذا الشّعار العظيم، الّذي نادى به النبيّ الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

خَلُّوا بَيْننا وبينَ النّاس.

إنّه شأنه وشأن إخوانه الأنبياء عليهم السّلام من قبله.

ما كانوا حريصين أبدا على أن يُمسِكوا المجتمع من على عرش الحُكم، بل كانوا يريدون أن يُصلِحوا المجتمع من جذوره.

ويدلّ على هذا، أنّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بإمكانه أن يقبلَ عرْضَهم، فيجلس على عرش قومه مَلِكاً يأْتَمِر النّاس بأمره، وينتهون بنهيه..

ولكنّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفـض كلّ ما عرضـوه
..


وهذا شعار أولي العزم من الرّسل عليهم السّلام:

انظر إلى موسى عليه السّلام، قال تعالى في حقّه:{ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ

فَأَرْسِـلْ مَـعِـيَ بَنِي إِسْرائيلَ } [الأعراف:105]..


لم يقل: قُم من على كرسيّ الحكم .. ولكنّه قال:فَأَرْسِـلْ مَـعِـيَ بَنِي إِسْرائيلَ ..

علموا جميعهم أنّ مبدأ الإصلاح إنّما يكون من جذور المجتمع.

روى الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:

مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ:

(( مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَـهُ الْجَنَّـةُ ؟)).

حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ، أَوْ مِنْ مُضَرَ، فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ:

احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ، لَا يَفْتِنُكَ ! وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ.

وتأمّل قوله: وَلَـهُ الْجَنَّـةُ .. إنّه خطاب لمن لم يؤمن بعدُ برسالته ..


إنّه خطاب لمن لم يُقِرّ بعد باليوم الآخر ..

لماذا ؟

إنّه يريد أن يربطهم من أوّل يوم بما لا يفنى ولا يبيد ..

لا يريد أن يربطهم بوعود كاذبة، وزخارف زائفة .. كحال كثير من الدّاعين إلى أنفسهم ..

وتراه صلّى الله عليه وسلّم ظلّ على ذلك الحال حتّى تمّت بيعة العقبة الأولى فالثّانية وآواه الأنصار ..

ومع ذلك لم يُهاجر حاكما ..

ولكنّه أرسل مصعب بنَ عُميرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ينشر فيهم تعاليم الدّين الحنيف، والخلق الشّريف.

يكمل جابر قائلا:

حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ، وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ

حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ.


عندئذ أذن الله له بالهجرة، فإنّ المجتمع القاعدة والأساس صارت أهلاً إلى حكم الأنبياء ..

وتأمّل – لتزداد يقينا من ذلك – ما رواه البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ ))..

فالحكم ربّاني .. على عرشه نبيّ .. ومع ذلك كانت عاقبتهم أن قال فيهم:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166].

فإنّ ما أُخِــذ بالدّعــوة والغــزو الفــكريّ والله لن يعود إلاّ بالدّعـوة وتصحيح الأفكار والعقائد.

هذا هو المبدأ الدّعويّ الصّحيح:

بثّ الخير والعمل الصّالح في النّاس إلى أن يمكّن الله المجتمعَ الذي يكون شعاره أوّلا وآخرا:


{سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: من الآية285].

والحمد لله ربّ العالمينعارات النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

0 التعليقات:

إرسال تعليق