فتاوى متنوعة


إتحاف الإخوان المقيمين ببلاد الإسبان
تحميل
بسم الله الرّحمن الرّحيم
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، أمّا بعد:
فإنّ الله تعالى قد أنعم علينا بنعم لا تعدّ ولا تحصى، ولا يُحاط بها ولا تستقصى، نِعَمٌ لا يشعر بعظمتها إلاّ المحروم منها، ولا يقدر لها قدرها إلاّ المبعد عنها، ومن أعظم هذه النّعم هي الاستقامة، أي الاهتداء والثّبات على هذا الدّين، قال الله تعالى:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة: من الآية3]. ثمّ أوجب الله علينا اتّباعه، وحذّرنا من الانحراف عنه، فقال:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153]. وأرشدنا إلى أن نُقبِل وندعوه الاهتداء إليه، والثّبات عليه، ونقول ونحن ماثلون بين يديه:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7))..
هذه الآية العظيمة الّتي يحفظها الأمّي والأديب، الذّكي والأريب، يتلوها الصّغير والكبير، العزيز والحقير، لو تأمّلها المسلمون كما يجب لأدركوا تمام الإدراك، أنّ من شروط الاستقامة، والفوز يوم القيامة، مخالفة أصحاب الجحيم، من المغضوب عليهم والضالّين..
المغضوب عليهم .. هم اليهود، الأمّة الغضبيّة، وأخبث الأمم طويّة، وأنجسهم سجيّة، أهل الكذب والبهتان، والغدر والمكر والكفران، أكلة السّحت وقتلة الأنبياء، أصحاب الكيد ومعذّبو الأتقياء، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشّحناء، أبعد الخلق عن الرّحمة، وأقربهم من النّقمة، لا يعرفون لمن خالفهم في كفرهم حُرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمّة، أخبثهم هو أعقلهم، وأحذقهم أغشّهم، أضيق الخلق صدورا، وأظلمهم قلوبا، تحيّتهم لعنة، ولقاؤهم محنة .. قاتلهم الله أنّى يؤفكون ..
والضالّون .. هم النّصارى، الأمّة المثلّثة، أمّة الضّلال وعبّاد الصّليب، أمّة الانحلال والمجون الرّهيب، الّذين سبّوا اللهَ سبَّة ما سبّه إيّاها أحد من العالمين، فنطقوا بالشّرك والكفر المبين، أنكروا أنّه الواحد الأحد، الفرد الصّمد، الّذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، قالوا في الله ما تكاد السّموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا، أن دعوا للرّحمن ولدا، دينهم عبادة الصّلبان، وطاعة القساوسة والرّهبان، فالحلال ما أحلّوه، والحرام ما حرّموه، فسبحان الله عمّا يشركون ..
إخوتي الكرام ..
فقد وصلتني رسالتكم منذ أمد بعيد، منذ شهر أو يزيد، تضمّنت أسئلة تدمي القلب، وتزيد الكرب، حتّى إنّني أردت أن أسمّي الإجابة عنها: ( أحكام أهل الذمّة ).. كما سمّاها من قبل عَلَم الأمّة، الشّيخ الهُمام وشيخ الإسلام ابن القيّم عليه من الله سحائب الرّحمات.. إلاّ أنّه عنى بأهل الذمّة أهلَ الكتاب الّذين يعيشون تحت كنف أهل الإسلام، وأنا أعني بهم المسلمين الّذين يعيشون تحت كنف أهل الكفر اللّئام..
ووجه الشّبه ظاهر لكلّ ذي عينين، لا شكّ في ذلك أو مين، لِما ضُرِب من الذلّة على المسلمين بين أظهر الكفّار والمشركين، حتّى ما استطاعوا أن يعيشوا في طاعة، متّبعين هدي صاحب الوسيلة والشّفاعة ..
فالتمست من أسئلتكم الخير في قلوبكم الّتي تنبض بالإيمان، وفي الوقت نفسه التمست الضّعف الّذي ضرب عليكم من كلّ مكان، حتّى إنّ جلّ الأسئلة الّتي طرحت، فيها البحث عن فُرَجٍ فُسحت، باسم الحاجة تارة، وباسم الضّرورة تارة، حتّى تحلّ عُرى هذا الدّين القويم عروة عروة باسم الضّرورات والحاجات .. وصدق من قال:
( أبكي على الإسلام من كمد وأزفر الآه تلو الآه من ألم )
فقبل الإجابة عن كلّ تلكم الأسئلة، أنادي قلوبكم الّتي آمنت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا ورسولا، أن تفيقوا من غفلتكم، وتستيقظوا من نومتكم، وتنفضوا رفاتكم، وتجمعوا شتاتكم، وتعودوا إلى بلاد أهل الإسلام على عُجرها وبُجرها، وعلى ضررها وكدرها، فالبون شاسع، والفرق واسع، إلاّ أنّ الشّيطان لبّس على كثير من الإخوان، فصوّر لهم البلدين سيّان.
ومع ذلك، فلن آلوَ جهدا، ولن أدّخر وسعا، في أن أجيب إخواني الّذين نُشهد الله تعالى أنّنا نحبّهم في الله، ونسأله سبحانه أن يجمعنا مع النبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم في دار كرامته، ومستقرّ رحمته.
السّؤال الأول:
ما حكم الإقامة في بلاد الكفر، والسّفر إليها، مع التّفصيل وذكر الشّروط ؟ وما معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم : (( أَنَا بَرِيءٌ..)) كما جاء في الحديث ؟
الجواب:
لا يخلو المقيم في بلاد الكفر من أربع حالات وهي:
1- أن لا يستـطيع إظـهار دينه، ويمكنه الهجرة.
فهذا قد اتّفق أهل العلم على أنّ الهجرة في هذه الحالة واجبة عليه، وأنّ الّذي لا يهاجر فهو المعنِيّ بالوعيد الشّديد، الّذي أتى في كلام ربّ العبيد: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].
بل إن كانت أنـثى لا تجد مَحرَمًا، وكانت تأمن على نفسها في الطّريق وجبت عليها الهجرة.
2- أن لا يستـطيع إظهار دينه، ولا يمكنه الهجرة، فهذا قد اتّفق أهل العلم أيضاً في مثل هذه الحالة على عدم وجوب الهجرة لقوله تعالى:{ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً }، وعدم الاستطاعة هنا إمّا أن تكون لمرض، أو إكراه على الإقامة في دار الكفر، أو ضعف كالنّساء والولدان، أو غير ذلك من أنواع العجز المسقط لحكم وجوب الهجرة.
3- أن يستطيع إظهار دينه في دار الكفر، ولا يمكنه الهجرة، وهذا لا تجب الهجرة في حقّه من باب أولى، ولكنها تستحبّ.
4-أن يستطيع إظهار دينه، و يمكنه الهجرة، فالصّحيح من أقوال أهل العلم وجوب الهجرة، ويأثم القادر عليها ولم يهاجر.
ذلك لأنّ الله لم يعذره، وهذا مذهب عامّة أهل السلف، وهو قول اللّجنة الدّائمة ( فتوى رقم 1393)، والشّيخ الألباني ( شريط رقم 730)، وابن عثيمين وغيرهم، والأدلّة ما يلي:
أ) قوله تعالى في الآية السّالف ذكرها:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.
ب) عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيٍّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ : (( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَرَاءَى نَارُهُمَا )) رواه أبو داود.
ج) عَنْ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أُبَايِعُهُ فَقُلْتُ: هَاتِ يَدَكَ وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِالشَّرْطِ، فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم : (( أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَنْصَحَ الْمُسْلِمَ وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكَ )) رواه أحمد.
د) عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم : (( لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ مُشْرِكٍ أَشْرَكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلًا حَتَّى يُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ )) رواه أحمد.
وممّا يؤيّد هذا القول مقاصد الشّرع، ونذكر منها:
1-وجوب هجر المكان الذي يكفر فيه بالله، قال تعالى:{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ }.
2- تكثيف سواد المسلمين.
3- تيسير الجهاد على أهل الإسلام.
4- اجتناب المفاسد المترتبة من الإقامة بين الكفّار ومنها: خطر الردّة عن الدّين، الزّواج بالكافرات، الجناية على الأبناء، التجنّس بجنسيّتهم-وفي هذا إعلان الولاء التامّ لهم-، محبّة الكفّار وموالاتهم دون أن يشعر المسلم مع الأيّام، ذهاب الغيرة والحمية على الدّين، الذلّ والصّغار الّذي يلحق المقيم بينهم، كثرة التّفكير في السّفر لبلاد الكفر.
فالأصل وجوب الهجرة من بلاد الكفر إلا لحاجة وبشروط، وسيأتي بيان ذلك في الحديث عن السفر إلى بلاد الكفر.
( تنبيه مهّم ) : يعتقد كثير من الناس أنّ المقصود من إظهار الدّين هو إقامة الصّلاة، والصّيام، وقراءة القرآن في الدّيار الكافرة، دون أذيّة أو اعتداء، وأنّ من فعل ذلك فقد أظهر دينه بينهم، وهذا غلط فظيع، وخطأ شنيع، ويحسن بنا أن ننقل كلام أهل العلم في بيان معنى إظهار الدّين:
قال الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب كما في " الدّرر السنيّة ": "وإظهار الدّين تكفيرهم وعيب دينهم، والطّعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من مودتهم والركون إليهم، واعتزالهم، وليس فعل الصلوات فقط إظهاراً للدين، وقول القائل إنّا نعتزلهم في الصلاة ولا نأكل ذبيحتهم حسن، لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده بل لا بدّ ممّا ذكر ".
وقال الشّيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى: " والمراد التصريح باستمرار العداوة والبغضاء لمن لم يُوَحّد ربه، فمن حقّق ذلك علماً وعملاً، وصرح به حتى يعلمه منه أهل بلده، لم تجب عليه الهجرة من أي بلد كان، وأمّا من لم يكن كذلك، بل ظنّ أنّه إذا تُرِك يصلي ويصوم ويحج، سقطت عنه الهجرة، فهذا جهل بالدين، وغفول عن زبدة رسالة المرسلين".
و قال الشّيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ: " إظهاره دينَه ليس مجرّد فعل الصّلاة وسائر فروع الدّين واجتناب محرّماته من الرّبا وغير ذلك، إنّما إظهار الدّين مجاهرته بالتّوحيد، والبراءة ممّا عليه المشركون من الشّرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال".
أماّ السفر إلى بلاد الكفر:
فإنّه محرّم لما سبق من الأدلّة، ولما في ذلك من الخطر على العقيدة والأخلاق، بسبب ما ينتشر في هذه الدول من الكفر والفسوق والانحلال، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في زماننا هذا الذي نرى فيه حرص كثير من المسلمين على تقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو بين أظهرهم، والمسافر عندما يشاهد أهل الكفر أول مرة قد يستغرب ما هم فيه وينكر عليهم ويبغض ذلك، لكن بالتكرار يألفه ويعتاده، وكثرة المساس تفقد الإحساس.
فالأصل : تحريم السفر لبلاد الكفر لما سبق ذكره، ولكن قد يجوز ذلك إذا كان لحاجة شرعية - كالعلاج والتجارة وتعلّم التخصصات النافعة التي لا يمكن الحصول عليها إلاّ بالسفر إليهم - و إذا انتهت الحاجة وجب الرجوع إلى بلاد المسلمين.
ويشترط للذاهب في هذه الحالة أن يكون معه علم يدفع به الشّبهات، وإيمان يدفع به الشهوات، وأن يكون مظهرًا لدينه معتزًا بإسلامه، مبتعدًا عن مواطن الشر، حذِرًا من دسائس الأعداء ومكايدهم، وكذلك يجوز السفر أو يجب إلى بلادهم إذا كان لأجل الدعوة إلى الله ونشر الإسلام.
أمّا معنى قوله في هذا الحديث وغيره من الأحاديث : ( أنا بريء )، ومثله قول: ( ليس منّا ) فقد ذكر ابن حجر أقوالاً للعلماء في تفسير ذلك منها:
أ) ليس منّا: أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللّفظ المبالغة في الرّدع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرّجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست منّي، أي ما أنت على طريقتي .
ب) المراد أن الواقعَ في ذلك يكون قد تعرض لأن يهجر ويعرض عنه، فلا يختلط بجماعة السنة تأديبا له.
ج) وحكى الزين بن منيّر عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويله، ويقول ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر.
د) وقيل المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله، حكاه ابن العربي.
السؤال الثاني :
- ما حكم التجنس بجنسية الكفار، علمًا أنّه يطلب من طالب الجنسية أن يحلف على احترام وتطبيق القوانين والتي لا يخفى تنافيها مع الشريعة، ولقد سمعت بعض من قال أنه لا بأس بذلك، لأن الموافقة تكون ظاهرًا، أما الباطن فهو مطمئن بالإيمان، وأن الدول الإسلامية لا تطبق الشريعة فهي ودول الكفر سواء، بل إنّ هذه الدول تسمح بحرية الدين والمعتقد، فما رأيكم شيخنا ؟
الجواب:
لا يجوز للمسلم أن يتجنّس بجنسية دولة كافرة، لأنّ ذلك وسيلة إلى قبول أحكامهم وموالاتهم والموافقة على ما هم عليه من الباطل، أمّا ما يرجوه المتجنّس من الامتيازات الّتي يتوقّعها بعد حصوله على الجنسيّة فليست بشيء أمام الأخطار التي قد يتعرض لها دينه، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى كفر من فعل ذلك ( كالشيخ : عبد الحميد ابن باديس، والشيخ أحمد حماني مفتي الجزائر الأوّل ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى سابقا ).
وبناء على ما سبق فإن الأصل العام في المسألة أنه : يحرم على المسلم أن يتجنس بجنسية دولة كافرة، ولكن قد يجوز ذلك في حالة الضرورة، ولبيان ذلك ننقل فتوى للشيخ خالد الماجد ( عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) :
السؤال: ما حكم التجنّس بالجنسية الأوربية للمسلم الذي يأتي للبلاد الأوروبية فارّاً بدينه من الظلم الذي وقع عليه في بلده الأصلي، وفقد فيه هويته، وفقد أمل الرجوع إلى وطنه؟
الجواب : الحمد لله، للجواب على هذا السؤال يلزم بيان أمرين :
الأول : كون الإقامة في بلد الكفار جائزة.
الثاني : قيام الحاجة إلى أخذ الجنسية.
تفصيل الأمر الأول : الإقامة في بلاد الكفار لا تجوز إلا بالشروط الآتية :
1-وجود الحاجة الشرعية المقتضية للإقامة في بلادهم ولا يمكن سدّها في بلاد المسلمين، مثل التجارة والدعوة، أو التمثيل الرسمي لبلد مسلم، أو طلب علم غير متوفر مثله في بلد مسلم من حيث الوجود، أو الجودة والإتقان، أو الخوف على النفس من القتل أو السجن أو التعذيب، وليـس مجرد الإيذاء والمضايقة، أو الخوف على الأهل والولد من ذلك، أو الخوف على المال.
2-أن تكون الإقامة مؤقتة، لا مؤبّدة، بل ولا يجوز له أن يعقد النية على التأبيد، وإنما يعقدها على التأقيت، لأن التأبيد يعني كونها هجرة من دار الإسلام إلى دار الكفر، وهذا مناقضة صريحة لحكم الشرع في إيجاب الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ويحصل التأقيت بأن ينوي أنه متى زالت الحاجة إلى الإقامة في بلد الكفار قطع الإقامة وانتقل.
3-أن يكون بلد الكفار الذي يريد الإقامة فيه دار عهد، لا دار حرب، وإلا لم يجز الإقامة فيه، ويكون دار حرب إذا كان أهله يحاربون المسلمين.
4-توفر الحرية الدينية في بلد الكفار، والتي يستطيع المسلم بسببها إقامة شعائر دينه الظاهرة.
5-تمكنه من تعلّم شرائع الإسلام في ذلك البلد، فإن عسر عليه لم تجز له الإقامة فيه لاقتضائها الإعراض عن تعلم دين الله.
6-أن يغلب ظنه بقدرته على المحافظة على دينه، ودين أهله وولده . وإلا لم يجز له؛ لأن حفظ الدين أولى من حفظ النفس والمال والأهل.
فمن توفرت فيه هذه الشروط -وما أعسر توفرها- جاز له أن يقيم في بلاد الكفار، وإلاّ حرم عليه، للنصوص الصريحة الواضحة التي تحرم الإقامة فيها، وتوجب الهجرة منها، وهي معلومة، وللخطورة العظيمة الغالبة على الدين والخلق، والتي لا ينكرها إلا مكابر.
ثانياً : تحقق الحاجة الشرعية لأخذ الجنسية، وهي أن تتوقف المصالح التي من أجلها أقام المسلم في دار الكفار على استخراج الجنسية، وإلا لم يجز له، لما في استخراجها من تولى الكفار ظاهراً، وما يلزم بسببها من النطق ظاهراً بما لا يجوز اعتقاده ولا التزامه، كالرضا بالكفر أو بالقانون، ولأن استخراجها ذريعة إلى تأبيد الإقامة في بلاد الكفار وهو أمر غير جائز - كما سبق - فمتى تحقق هذان الأمران فإني أرجو أن يغفر الله للمسلم المقيم في بلاد الكفار ما أقدم عليه من هذا الخطر العظيم ، وذلك لأنه إما مضطر للإقامة والضرورة تتيح المحظورة، وإما للمصلحة الراجحة على المفسدة، والله أعلم. اهـ
أمّا قول من قال أنه لا بأس بذلك، لأن الموافقة تكون ظاهرًا، أما الباطن فمطمئن بالإيمان، فالجواب عليه بأن يقال:
إنّ الشرع لم ينه عن موافقة الكفّار في الباطن فقط، بل إنّ ذلك من المعلوم بالدين من الضرورة، وإنما نهى عن موافقتهم ومشابهتهم في جميع شؤونهم، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم : (( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )).
قال المناوي شارحا: " من تشبه بقوم: أي تزيا في ظاهره بزيهم وفي تعرفه بفعلهم وفي تخلقه بخلقهم وسار بسيرتهم وهديهم في ملبسهم وبعض أفعالهم أي وكأن التشبه بحق قد طابق فيه الظاهر الباطن ".
ومن التعاريف النافعة للتشـبه ما أورده الشيخ الدكتور ناصر العقل حيث قال: " هو مماثلة الكافرين بشتى أصنافهم، في عقائدهم، أو عباداتهم، أو عاداتهم، أو في أنماط السلوك التي هي من خصائصهم ".
و النصوص من القرآن التي تنهى عن مشابهة الكفار كثيرة نذكر منها:
- قوله سبحانه وتعالى: (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ))، فمن أهم مقتضيات الصراط المستقيم البعد عن سبيل المشـركين.
- قوله تعالى : (( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )
قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم : " وأهواءهم: هو ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك، فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ".
وأما ما ورد من الأحاديث وفيه الترهيب من التشـبه بهم، فما رواه أحمد عَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم : (( بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )).
وهذا أشهر حديث في باب التشـبه بالكفار، قال شيخ الإسلام في المصدر السابق: "وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشـبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشـبه بهم، كما في قوله : (( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ))".
وقد جاءت بعض الأحاديث بالأمر ببعض الأفعال أو النهي عن بعضها مع التعليل لذلك الأمر أو النهي بمخالفة أهل الكتاب منها:
1- ما رواه أبو داود عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: (( اهْتَمَّ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ، لَهَا فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ - يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ : شَبُّورُ الْيَهُودِ - فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، وَقَالَ :" هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ " قَالَ : فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ فَقَالَ : " هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى" )).
قال شيخ الإسلام: "وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى".
2- عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم : (( خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ )) وهذا تصريح منه صلّى الله عليه وسلّم بالأمر بالمخالفة.
ومن أراد الاستزادة فعليه بكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية " اقتضاء الصراط المستقيم ".
فهذه النصوص وغيرها تدل على تحريم مشابهة الكفار في جميع خصائصهم، والعلة في ذلك أن المشابهة في الظاهر تفضي للمشابهة في الباطن، قال ابن تيمية رحمه الله: " إنّ المشاركة في الهدي الظّاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإنّ اللاّبس لثياب أهل العلم يجد من نفسه نوعَ انضمام إليهم، واللاّبس لثياب الجند المقاتلِة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلاّ أن يمنعه مانع ".
وقال : "المشابَهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابَهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتّدريج الخفيّ ".
وصدق رحمه الله، فإنّه لما حرَص بعض المنتسبين إلى الإسلام على التشـبّه بالكفّار من اليهود والنصارى، في كلّ صغيرة وكبيرة وتركوا ما أوجب الله عليهم من البراءة منهم وكراهيتهم، وتخلّوا عن هذه الشّعيرة المهمّة من شعائر الإيمان، آلَ بهم الأمر إلى تصحيح أديان هؤلاء الكفار، بل والدّعوة إلى توحيدها مع دين الإسلام، وهو ما يعرف بوحدة الأديان، كلّ ذلك أثرٌ من آثار التشـّبه بالكفّار والتدرّجِ في مضاهاتهم في كلّ صغيرة وكبيرة والله المستعان.
أما القول بأنّ الدول الإسلامية لا تطبّق الشّريعة فهي ودول الكفر سواء، فهو غير صحيح، ولا يجوز للمسلم أن يسوّي بين دول الكفر والدّول الإسلاميّة وإن كانت لا تطبّق الشّريعة، فإنّها مع ذلك أهون بكثير من ديار الكفر، والشّرع الحنيف لم ينه عن مخالطة الكفار والإقامة بينهم بسبب عدم الحكم بالشّريعة فقط، بل هناك علل أخرى ومن أظهرها عداوتهم لله ورسوله المؤمنين وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلّة بقوله : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ))
وأما القول بأنّ هذه الدّول تسمح بحرّية الدّين والمعتقد، فالجواب عليه من أوجه:
أ) إنّ الواجب على المسلم التّسليم والانقياد لحكم الله ورسوله، ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يُحَكِّم النّصوص الشّرعية سواء وافقت عقله القاصر وهواه أو لم توافقه، يقول سبحانه: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً))، وعلى العبد أن يوقن أن حكم الله فيه غاية المصلحة والخير الدنيوي والأخروي للعباد، وأن العبد إذا ظهر له خلاف ذلك فإنما هو لقصوره البشري، لأن سبحانه هو واضع هذه الأحكام، وهو أدرى بمصالح العباد من أنفسهم، يقول تعالى: (( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )).
ب) قد سبق أن بينّا أن الصّحيح من أقوال أهل العلم من السّلف والخلف وجوب الهجرة من بلاد الكفر على من استطاع ذلك وإن أمكنه إظهار دينه.
ج) إنّ ما يذكر عن هذه الدول من حرية الدين والمعتقد هو مجرّد دعوى، والنّاظر لواقع كثير من هذه البلدان يرى ما يعانيه المسلمون من التّضييق، منها ما جاء في السّؤال السّادس من قولكم: ( فإنّكم تعلمون عدم سماع الأذان في هذه الديّار )، ومنها القرار الفرنسي القاضي بمنع الحجاب، والأمثلة على ذلك كثيرة، فأين هي حرّية الدّين و المعتقد المزعومة ؟!.
السؤال الثالث:
- ما ضابط تقصير الصلاة في السفر، وهل له زمن محدد أم لا ؟
الجواب :
إنْ كان المقصود من الضّابط هو ضابط المسافة، فإنّ العلماء قد اختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا، والصّحيح منها قول من لم يحدّد ذلك بمسافة، وأرجع ذلك إلى العُرف، وهو قول جمع من المحقّقين كابن حزم، وابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، وهذه أقوالهم :
قال ابن حزم كما في " المحلّى " (5/21): " لا حدّ لذلك أصلا، إلاّ ما سمّي سفرا في لغة العرب الّتي بها خاطبهم عليه السّلام، إذ لو كان لمقدار السّفر حدّ غير ما ذكرنا لما أغفل عليه السّلام بيانَه ألبتّة، ولا أغفلوا هم سؤالَه عليه السّلام عنه، ولا اتّفقوا على ترك نقل تحديده في ذلك إلينا ".
وقال ابن قدامة في المغني (3/109): " التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يُرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجّة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه ".
وقال ابن تيمية (24/15): "ولكن لا بد أن يكون ذلك مما يُعَدّ في العرف سفراً، مثل أن يتزوّد له، ويبرز للصّحراء ".
و قال ابن القيّم في " زاد المعاد ": " ولم يحُدّ لأمّته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضّرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمّم في كلّ سفر، وأمّا ما يُروى عنه من التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة فلم يصحّ عنه منها شيء البتة والله أعلم ".
وأما تحديد الزّمن: فإنّ ذلك يختلف باختلاف حالات المسافر:
الحالة الأولى: أن يكون المسافر في الطريق، فاتفق العلماء على مشروعية القصر.
الحالة الثانية: أن يصل المسافر إلى البلد الذي يقصده، ولم يجمع على الإقامة إلاّ بمقدار قضاء حوائجه، فقد أجمع العلماء أيضا على مشروعية القصر، ونقل الإجماع ابن المنذر فقال : " أجمع أهل العلم أنه يشرع للمسافر القصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون "، وبه قال ابن مفلح في "المبدع" (2/115)، و ابن قدامة في " المغني " (2/292)، والشّيرازي في " شرح المهذّب "، وأبو الحسن المالكي في " كفاية الطّالب الربّاني " (1/ 462)، والكاساني في " بدائع الصّنائع " (1/97)، والأدلّة على ذلك:
1- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: (( أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ )) رواه أَبُو دَاوُد.
2- عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: ( أُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا وَإِنْ حَبَسَنِي ذَلِكَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً ) رواه مالك.
3- وروى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: ( أَقَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ).
4- وروى مالك أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: ( أُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مَا لَمْ أُجْمِعْ مُكْثًا وَإِنْ حَبَسَنِي ذَلِكَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً ).
5- وعن أنس رضي الله عنه أنّه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصّلاة. [رواه الطّبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزّوائد"(2/158)].
6- وقال أبو مجلز: قلت لابن عمر رضي الله عنه: إنّي آتي المدينة فأقيم بها السّبعة أشهر والثّمانية طالبا حاجة ؟ فقال: صلّ ركعتين. [أخرجه عبد الرزّاق في "المصنّف" (4364)].
7- وقال أبو إسحاق السّبيعي: أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه سنتين نصلّي ركعتين. [ذكره ابن عبد البرّ في "التّمهيد"].
8- وروى البيهقيّ (3/152) " أنّ ابن عمر رضي الله عنه أقام بأذربيجان يصلّي ركعتين ركعتين، وكان الثّلج حال بينهم وبين القفول"، وكان يقول: " إذا أزمعت إقامة فأتم ّ". [صحّحها الحافظ في "الدّراية" (ص129)، والألباني في "الإرواء" (3/28)].
9- وعن نصر بن عمران قال: قلت لابن عبّاس رضي الله عنه: " إنّا نطيل المقام بالغزو بخراسان، فكيف ترى ؟ قال: ( صلّ ركعتين وإن أقمت عشر سنين ) [ذكرها ابن عبد البرّ أيضا].
قال ابن عبد البرّ رحمه الله في "التّمهيد"(11/184):
" محمل هذه الأحاديث عندنا على من لا نيّة له في الإقامة لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدد المتقاربة، وإنّما ذلك مثل أن يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا، وإذا كان هكذا فلا عزيمة ههنا على الإقامة، قيل لأحمد بن حنبل: فإذا قال: أخرج اليوم، أخرج غدا يقصر ؟ قال: هذا شيء آخر، هذا لم يعزم".
الحاصل: ملخّص ما ذكرناه أنّ المسافر إذا كان في الطّريق أو دخل بلدة لا ينوي الإقامة بها لعذر أو مانع أو قضاء حاجة، فهذا يقصر باتّفاق.
الحالة الثالثة: أن يصل المسافر إلى البلد الذي يقصد، ويُجمِع ويعزم على الإقامة، فاختلف العلماء في ذلك، و الرّاجح في المسألة هو التّفصيل:
- فإن لم يعزم على الإقامة الّتي تخرجه عن حدّ السّفر ( ويُدرَك ذلك بالعرف)، فإنّه يقصر كما فعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصحابة في الآثار السابقة.
- أما إن أجمع على الإقامة التي تخرجه عن حد السفر عرفا، بأن يتّخذ ذلك وطنا له مؤقّتا، فإنّه يُتِم لأنّه ليس مسافرا لا لغة ولا عرفا ولا شرعًا:
أمّا لغة: فإنّ النّاس صنفان: مقيم ومسافر، فإن لم يكن مسافرا لغةً فهو مقيم، وليس هناك وسط.
أما عرفا: فلا زال السلف يرحلون في طلب العلم، وينتقلون من بلد لآخر ويقيمون سنوات، و كانوا يتمون صلاتهم، بل بعضهم يصير إماما في تلك البلد مع عزمه على الرجوع إلى بلده.
أما شرعا: فلأنه لا يدخل في حكم ابن السبيل فلا يعطى من الزكاة، كما لا يحل له المسح ثلاثًا، ولا تسقط عنه الجمعة، ولا يحل له الفطر في رمضان وغير ذلك من الأحكام.
السؤال الرابع :
- إذا زار المقيم هنا أهله في بلده الأصلي، فهل يقصّر أم يتم ؟
الجواب :
إذا زار المقيم أهله في بلده الأصلي، يجب عليه تقصير الصلاة لأنه مسافر، والله أعلم.
السؤال الخامس :
- ما حكم الصّلاة وراء العاصي ( كحالق اللحية والمسبل )، ووراء من ظهرت منه بعض البدع ؟ وهل الأولى لمُّ الجمع أو تعدد الجماعات والصلاة منفردًا ؟
الجواب :
ينبغي للمسلم أن يختار الإمامَ الذي يصلي خلفه، فلا يصلي وراء العاصي (كحالق اللحية والمسبل ) وهو يقدر على الصلاة خلف التقيّ، لأنّ حلق اللّحية والإسبال حرام، فإن لم يجد سواه نصحَه وصلّى خلفه وصلاته صحيحة، وكذلك لا يصلي خلف مبتدع، وهو يقدر على الصّلاة خلف الإمام السنّي، فإن لم يقدر على أن يصلّي في جماعة إلاّ خلف المبتدع نصحه عسى أن يتخلّى عن بدعته، ويصلّي وراءه، ولا يدع الجمعة ولا الجماعة لكون الإمام فاسقاً أو مبتدعا ما دام أنّه مسلم، فإنّ حضور الجمعة والجماعات مصلحتها أعظم من مصلحة ترك الصّلاة خلف مثل هؤلاء، وقد كان الصّحابة رضي الله عنهم يصلّون خلف الأمراء الظّلمة، كما صلّى ابن عمر رضي الله عنه خلف الحجّاج، وما زال أهل العلم يصلّون خلف الأئمّة، فلا يعطّلون شعائر الإسلام بفجور الإمام أو بدعته.
وقد حُفِظ عن الحسن البصريّ رحمه الله قوله حين سئل عن الصّلاة خلف المبتدع: " صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ "، وكان يقول: " لا تضرّ المؤمنَ صلاتُه خلف المنافق، ولا تنفع المنافقَ صلاة المؤمن خلفَه "، وكان الشّافعي يُفتِي بذلك ويقول: " وإن كان غير محمود الحال في دينه ".
هذا فيمن كانت بدعته غير مكفّرة، أمّا من كانت بدعته شركيّة كمن يستغيث بالأموات أو يدعوَهم من دون الله أو يذبح لهم فلا يصلّي وراءه لأنّه كافر وصلاته باطلة، ولا يصحّ أن يجعل إماما، والله أعلم.
السّؤال السّادس :
- هل من ملك ورقة مواقيت الصلاّة تجب عليه صلاة الجماعة في المسجد كما تجب عليه عند سماع الأذان فإنّكم تعلمون عدم سماع الأذان في هذه الديّار، وما هي المسافة التي يجب بها حضور الجمعة، وما رأيكم فيمن تفوته الجمعة بحجّة العمل وأنّه عبادة ؟
الجواب :
الضّابط في وجوب حضور الجماعة، هو أن يكون الشخص في مكان يَسمَعُ منه الأذان من مؤذِّن صيِّتٍ في وقت صحوٍ على ظهر المسجد دون مكبّر صوت عادةً، فمن وُجد في مثل هذا المكان وجب عليه حضور الجماعة، والورع والتّقوى يلعبان دورا كبيرا في تحديد ذلك، وليست العبرة بمن ملك ورقة مواقيت الصّلاة، ولا بالسّماع من مكبّر الصّوت، فقد يُسمعُ الأذان من مسافة بعيدة جدًا، وقد لا يَسمعُ الأذان من هو بجوار المسجد بسبب فتح المسجّل مثلاً، و الله أعلم.
أما المسافة الّتي يجب بها حضور الجمعة : فإنّها تجب على المسلمين المستوطنين في مدينة أو قرية.
أمّا تضييع صلاة الجمعة بحجة العمل فلا يجوز، لأنّ الله تعالى أمر المؤمنين بشهود الجمعة وافترضها عليهم ونهاهم عن التّشاغل عنها ببيع أو شراء أو غيرهما فقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه وَذَرُوا الْبَيْعَ ))، وقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث كثيرة تحذر من التهاون بها منها:
- ما رواه النسائي عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يُحَدِّثَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ وَهُوَ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ (( لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ )).
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ: (( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ )) [رواه مسلم].
- وعَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ رضي الله عنه وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ : (( مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ )) [رواه أبو داود].
وليس العمل عذرا في التخلّف عن الجمعة ولو بأمر صاحب العمل، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذا من شؤم الإقامة في بلاد الكفر.
ومن باب التّذكير لمثل من يقول ذلك: فليَعلم أنّ العلماء قد قرّروا وفي مصنّفاتهم قد سطّروا أنّ أفضل العبادات على الإطلاق ما كان موافقا للحال والزّمان .. ففي وقت تكون الصّلاة أفضل العبادات، وعند حضور مجلس العلم يكون العلم أفضل من النّوافل، وعند دخول وقت الرّواتب يكون أداؤها أفضل من عمل آخر، وعند احتياج الأخ إليك تكون إعانته أفضل القربات، ووقت العمل يكون العمل أفضل وهكذا، والأصل في المسلم أن لا يفرغ من عبادة الله، قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}.
السؤال السابع :
- قام مؤخرا أحد البنوك المعروفة LA CAIXA ( وتبعته بنوك أخرى ) بإنشاء خدمة لزبائنه وللجالية المغتربة استحسنها كثير من المسلمين، وهي أن يقدم الزبون مبلغًا معيّنًا من المال (12 أورو) شهريًا، وفي المقابل يقوم البنك في حالة وفاة هذا المشترك بنقله إلى بلده الأصليّ، وتقديم مبلغ يقدّر بحوالي (1000 أورو) لأهل الميّت، فبغضّ النّظر عن حكم نقل الميّت من بلد لأخر، ما حكم هذه المعاملة ؟ وما حكم دفن المسلم في بلاد الكفر ؟ وهل يجوز دفن المسلم في مقبرة الكفّار إذا كان بمعزل عنهم ؟
الجواب :
الظّاهر من هذه المعاملة أنّها محرّمة لوجوه منها:
1- أنّ فيها غررا ومخاطرة، لأنّ هذا الزّبون قد يُعمَّر كثيرًا، ويكون بذلك قد دفع من المال أكثر من الّذي سينفقه البنك لنقله إلى بلده الأصليّ، ومن المبلغ الذي سيقدّمه لأهله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الزبون قد يتوفّاه الله تعالى في غير البلد الذي يوجد فيه هذا البنك، فيكون بذلك قد فقد ماله الّذي دفعه.
2- أنّ هذه المعاملة قد تؤدّي إلى الرّبا، لأنّ الزّبون قد لا يُعمَّر كثيرا، فتكون تكاليف نقله لبلده الأصليّ أكثر من المال الّذي دفعه، وفي هذه الحالة يكون المال الزائد الذي دفعه البنك عبارة عن فوائد للمبالغ المالية التي كان يدفعها، وهذا ربا.
3- في هذه المعاملة إعانة على الإثم و العدوان، لأنّ الأموال الّتي يدفعها الزّبائن سيستثمرها البنك في مشاريع محرّمة قطعًا.
أمّا حكم دفن المسلم في بلاد الكفر: فإن كان دفن المسلم في بلاد الكفر في مقبرة خاصة بالمسلمين فيجوز ذلك، أمّا أن يُدفن المسلم في مقبرة الكفاّر، فهذا محرّم، وقد أفتت اللّجنة الدائمة بما يلي:
" لا يجوز للمسلمين أن يدفنوا مسلماً في مقابر الكافرين؛ لأنّ عمل أهل الإسلام من عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الرّاشدين ومن بعدهم مستمرّ على إفراد مقابر المسلمين عن مقابر الكافرين، وعدم دفن مسلم مع مشرك، فكان هذا إجماعاً عملياً على إفراد مقابر المسلمين عن مقابر الكافرين، ولما رواه النسائي عن بشير ابْن الْخَصَاصِيَةِ قال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَرَّ عَلَى قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: (( لَقَدْ سَبَقَ هَؤُلَاءِ شَرًّا كَثِيرًا ))، ثُمَّ مَرَّ عَلَى قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ : (( لَقَدْ سَبَقَ هَؤُلَاءِ خَيْرًا كَثِيرًا ))، فدل هذا على التفريق بين قبور المسلمين وقبور المشركين.
وعلى كل مسلم ألاّ يستوطن بلداً غير إسلاميّ، وألاّ يقيم بين أظهر الكافرين، بل عليه أن ينتقل إلى بلد إسلامي فراراً بدينه من الفتن، ليتمكّن من إقامة شعائر دينه، ويتعاون مع إخوانه المسلمين على البرّ والتّقوى، ويكثِّر سواد المسلمين إلاّ من أقام بينهم لنشر الإسلام، وكان أهلاً لذلك قادراً عليه، وكان ممّن يُعهد فيه أن يؤثِّر في غيره، ولا يغلب على أمره، فله ذلك وكذا من أضطر إلى الإقامة بين أظهرهم، وعلى هؤلاء أن يتعاونوا ويتناصروا، وأن يتخذوا لأنفسهم مقابر خاصة يدفنون فيها موتاهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم " اهـ .[فتوى رقم (1841).
أمّا دفن المسلم في مقبرة الكفار إذا كان بمعزل عنهم: فقد جاء في فتوى اللّجنة الدّائمة برقم (8909):
س: هل يجوز دفن الميت المسلم في مقبرة تكون واقعة على قطعة على حدّه، ولكن في سور واحد مع مقابر أهل الكتاب، وهل فيه هناك حديث نبويّ في هذا الباب ؟
ج: لا يدفن داخل سور مقبرة الكفار، ولو في قطعة أرض منها على حده؛ لأن جميع ما في داخل سورها يعتبر منها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم "اهـ.
السؤال الثامن :
- ما حكم شراء بيت بواسطة البنك ( عن طريق الربا ) بدعوى الضرورة، وأصدقك القول شيخنا أن هناك بعض المناطق والمدن يصعب فيها تأجير البيوت لأسباب كثيرة منها: العنصريّة والصورة السيّئة للمغتربين، وغير ذلك من الأسباب، وليس لهذه الأسر إلاّ شراء هذه البيوت عن طريق البنك.
- فما الحلّ شيخنا ؟ وهل من ضابط ؟
- ما حكم شراء سيارة بالطريقة السّابقة بدعوى أنها ضرورية للعمل ؟
- ما حكم من يؤجِّر غرفة في بيت اشتراه صاحبه عن طريق البنك، فهل بأجرته يعتبر مشاركًا في هذه المعصية، علمًا أنّ ثمن الكراء يضيفه صاحب البيت إلى المال الذي يدفعه للبنك ؟
الجواب:
لا يجوز الاقتراض من البنك بفائدة لشراء بيت ولا غيره، لأنّ هذا ربا محض، و الله تعالى يقول:{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا }، و قد توعّد الله جلّ وعلا المرابين بما لم يتوعّد غيرهم فقال: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ } فأخذ القرض بفائدة ربويّة محرّم بالكتاب و السنّة وإجماع المسلمين الذين يُعتدّ بقولهم.
وأما الفتوى بجواز الاقتراض بالربا، فهذا لمن كان في حالة اضطرار، فيكون حاله مثل حال من أشرف على الهلاك من الجوع، فيجوز لـه أكل الميتة والخنـزير لينقذ حياته، وشراء منـزل للسّكن لا يعدّ ضرورة ملجئة مع إمكان الحصول على السّكن بالأجرة.
ثمّ إنه لو قلنا بجواز الاقتراض من البنك للضّرورة فإنّ الأمر لا يترك لكلّ شخص، بل إنّ المفتي الثّقة ينظر في كلّ حالة على حدة ليحدّد الضّرورة من عدمها، فإنّ من المسلمين من يدّعي الضرورة في الاقتراض ولا ضرورة، بل هو من قبيل الحصول على الامتيازات الدّنيوية.
أمّا الحل : فعلى المسلم أن يتّقي الله تعالى ويلتزم بأمره، وقد وعد الله تعالى من فعل ذلك بالفرج والرزق في الدنيا، والسعادة والنجاة في الآخرة فقال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }، ومن ترك الحرام مخافة الله عوّضه الله بالحلال أضعاف ما فاته من الحرام، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
وعلى المرء أن يحرص على التماس الحلال في أكله، وشربه، وبيعه، وشرائه، وسائر عقوده، ومن تحرّى الحلال وفّقه الله لاستجابة الدعاء، كما أن الكسب الحرام سبب لعدم القبول، وقد ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : (( الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟!)).
أما أن يؤجر غرفة في بيت اشتراه صاحبه عن طريق البنك، فالأولى ترك ذلك إن وجد غيره، أما إن لم يجد جاز له ذلك ولاشيء عليه، فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعامل الكفّار مع أنّهم يتعاملون فيما بينهم بالحرام، والله أعلم.
السؤال التاسع
- ما المراد بكون طعام أهل الكتاب حلّ لنا كما جاء في سورة المائدة ؟ وما المقصود بالطّعام في الآية ؟ وهل يجب لآكل ذبيحة أهل الكتاب أن يذكر اسم الله عليها أو يكفي الذّبح فقط ؟ لأنّ من الناس من يشتري اللحوم بأنواعها من أسواق الكفار ويستدل بهذه الآية.
الجواب:
المراد بكون طعام أهل الكتاب حلاًّ لنا: أنّ الله تعالى أجاز لنا أن نأكل طعامهم، و المقصود بأهل الكتاب هم اليهود والنّصارى لا غيرهم.
والمقصود بالطعام في الآية : الذّبائح، والدّليل على ذلك:
أ) ما رواه البخاري عن ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنّه قَالَ: ( طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ ).
ب) لو كان المقصود بالطعام غير الذّبيحة لما خصّه الله تعالى بأهل الكتاب، لأنّ طعام المشركين من غير الذبائح حلال أيضا.
ج) لو فُرض أنّه تعالى لا يريد الذّبائح خاصّة، فيقال: تدخل الذّبائح في العموم.
أمّا التّسمية على ذبيحة أهل الكتاب: فإن كنت تقصِد المسلم فهذا واجب ولو كانت ذبيحة مسلم، بل التّسمية واجبة على كلّ طعام ولو لم يكن لحما.
أمّا إن كنت تقصد هل تجب التّسمية على الكتابيّ الذّابح نفسهِ فاعلم أمرين:
الأوّل: أنّه تحرم ذبيحة الكتابيّ إذا أهلّ عليها غير اسم الله، كاسم المسيح والعذراء، وغير ذلك.
الثّاني: ذبيحة الكتابيّ إذا لم يذكر عليها اسم الله ولا اسم غير الله، فللعلماء قولان في ذلك:
أنّها لا تحلّ، لأنّها إذا وجبت في حقّ المسلم فوجوبها على غيره أولى، ويخصّ عموم قوله تعالى:{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } بقوله تعالى:{ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق} [الأنعام: من الآية121].
أنّها تحلّ مطلقا، سواء اشترطنا التّسمية على ذبيحة المسلم أو لم نشترطها، قال النّووي رحمه الله في " المجموع " (9/78): " فذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله تعالى عليها أم لا لظاهر القرآن العزيز ".
والصّواب أنْ يُرجع إلى القواعد العامّة الّتي يرجّح بها عند التّعارض، فهناك عمومان:
عموم حظر، وهو النّهي عن أكل ما لم يُذكر اسم الله عليه.
وعموم إباحة: وهو إباحة ذبائح أهل الكتاب.
فنرى فريقا من العلماء يريد تخصيص النّص الثّاني بالأوّل، وفريقا يريد العكس، والقواعد تقتضي النّظر في أيّ العمومين خُصّ، فيُخصَّ مرّة أخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " اقتضاء الصّراط المستقيم "(ص256):
" فلمّا تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، والعموم المبيح وهو قوله: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الِكتَابَ حِلٌّ لَكُمْ، اختلف العلماء في ذلك، والأشبه بالكتاب والسنّة ما دلّ عليه أكثر كلام أحمد من الحظر .. وذلك لأنّ عموم قوله تعالى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ عموم محفوظ لم تخصّ منه صورة، بخلاف طعام الّذين أوتوا الكتاب، فإنّه يشترط له الذّكاة المبيحة، فلو ذكّى الكتابيّ في غير المحلّ المشروع لم تُبَح ذكاته، ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم..".
تنبيه: إذا غلب على أهل الكتاب الالتزام بدينهم فإنّه لا يشترط العلم بتسميتهم على الذّبائح، قال ابن القيّم رحمه الله في " أحكام أهل الذمّة ": " إنّ الشّرط متى شقّ العلم به وكان فيه أعظم الحرج سقط اعتبار العلم به، كذبيحة المسلم، فإنّ التّسمية شرط فيها ولا يُعتبر العلم بذلك، وقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قيل له:" إنّ ناسا يأتوننا باللّحم لا ندري أسمّوا الله أم لا ؟" فقال صلّى الله عليه وسلّم : (( سَمُّوا أَنْتُمْ وَكُلُوا ))". فإنّما يشترط العلم بذلك إذا كان الغالب عليهم أنّهم لا يسمّون ولا يبالون-كما هو في أغلب أهل كتاب عصرنا هذا-.
السؤال العاشر :
- شيخنا ما ضابط الضرورة ؟ فقد توسع كثير من الناس، حتى أنّي سمعت من أنكرت عليه أكل اللّحوم غير الشّرعية يقول: إنّها ضرورة، وأنّ اللّحم الحلال لا يوجد في تلك المنطقة، وكأنّ عدم أكله اللّحم سيهلكه !
الجواب:
أجمع العلماء على إباحة المحرّم للضّرورة، وقد ذكرت آية المائدة ضابط الضّرورة، وهي المخمصة، قال تعالى: (( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))، والمخمصة: هي شدة الجوع المفضي للهلاك.
أمّا مجرّد أنّه يشتهيه فهذا ممّا لا ينبغي للمسلم أن يفعله، وبهذا تذهب ديانة المرء، وخاصّة إذا تعلّق الأمر بالمأكل والملبس الّذي سبق أن ذكرنا أنّه من موانع إجابة الدّعاء.
وانتبه أخي القارئ الكريم إلى ألفاظ الحديث السّابق ذكره ترى بيّك صلّى الله عليه وسلّم : (( ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ )) فهلاّ تساءلت عن سرّ هذا الوصف الدّقيق لهذا الدّاعي ؟!
إنّه صلّى الله عليه وسلّم يذكر أسباب إجابة الدّعاء:
أحدها: إطالة السّفر، والسّفر بمجرّده يقتضي إجابة الدّعاء كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ )) [خرّجه أبو داود].. ومتى طال السّفر كان أقرب إلى إجابة الدّعاء، لأنّه مظنّة حصول انكسار النّفس بطول الغربة عن الأوطان، وتحمّلُ المشاقّ والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدّعاء.
والثّاني: حصول التبذّل في اللّباس والهيئة بالشّعث والإغبار، وهو أيضا من المقتضيات لإجابة الدّعاء كما في الحديث المشهور عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : (( رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ )) ولمّا خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للاستسقاء خرج متبذّلا متواضعا متضرّعا..
الثّالث: مدّ يديه إلى السّماء، وهو من آداب الدّعاء الّتي يرجى بسببها إجابته، وفي حديث سلمان رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : (( إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ )) [خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذي وابن ماجه].
والرّابع: الإلحاح على الله عزّ وجلّ بتكرير ذكر ربوبيّته، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدّعاء.
قيل لسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ قال: " مَا رفعت إلى فمي لقمة إلاّ وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت ؟" وعن وهب بن منبه قال: " من سرّه أن يستجيب الله دعوته فليطيِّب طعمته "، وعن يوسف بن أسباط قال: " بلغنا أنّ دعاء العبد يُحبَس عن السّموات بسوء المطعم ".
السؤال الحادي عشر :
- هناك بعض الأسواق والمراكز تبيع لحوما تدعي أنها حلال، وتضع عليها ملصقات مكتوب عليها "حلال"، فهل يكفي هذا لجواز أكلها ؟ وهل تجوز شهادة الكافر في هذه الحالة وغيرها ؟
الجواب:
- هذا الأصل يؤخذ به إذا كنت بين المسلمين أو أهل الكتاب الّذين تعلم أنّهم يصدقون في ذلك، فيكون ذلك حينها كافيا، ما لم يتبيّن أو يغلب على الظنّ أنّ ذلك غير صحيح، وقد تبيّن أنّ نسبة معتبرةً من اللّحوم المعروضة في الأسواق هناك لا تكون قد ذكّيت ذكاة شرعية، لذلك وجب تركها من باب الاحتياط، لأنّ القاعدة المقرّرة أنّه متى تعارض الأصل مع الظّاهر فيؤخذ بالغالب.
السؤال الثاني عشر :
- هل يجب التدقيق والتحقيق في كلّ مكوّنات المنتجات الغذائية، أو أنّ ذلك يُعدّ من التنطّع والتّضييق، علما -شيخنا- أنّ بعض هذه المنتجات يستعمل فيها خلّ الخمر وشحم الخنزير وغيرهما ؟
الجواب :
ما قصدك بالتّدقيق والتّحقيق ؟ فإن قصدك أن تسأل عن المكوّنات المكتوبة المصرّح بها فلا يجب ذلك، قال الله تعالى :((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ))، ويكفي ما يُكتب عليها مما يبيّن محتواها، فإذا استُعمِل فيها ما هو محرّم لم يجز أكلها، كجيلاتين الخنزير، والخمر.
أمّا إن كان قصدك قراءة المحتوى، فهذا لا بدّ منه، وإلاّ لم يجز أكلها.
أمّا قولك " خلّ الخمر "، ففيه لَبْسٌ، فإنّ الخلّ غير الخمر، وإنّما العصير لكي يصير خلاّ لا بدّ أن يمرّ بمرحلة الخمر، لذلك جاز اتّخاذ خلّ أهل الكتاب وإن كنّا نعلم أنّ أصلها خمر، روى أشهب عن مالك: إذا خلّل النّصرانيّ خمرا فلا بأس بأكله.
أمّا الخلّ المحرّم هو الخلّ الّذي نعلم أنّ المسلم صنعه فاقتنى من أجله خمرا، والمقرّر أنّ خلّ المسلم لا تحلّ إلاّ في حالتين:
الأولى: أن تتخلّل وحدها دون قصد، وهو قول عمر وقبيصة رضي الله عنهما وابن شهاب وربيعة ومالك والشّافعيّ في قول، وهو ما جرى عليه محقّقو الشّافعيّة، ونقل ابن تيمية رحمه الله اتّفاق العلماء عليه في " مجموع الفتاوى "(21/481).
الثّانية: تخليلها بوضع بعض الخلّ أو الملح ونحوهما عليها، فتستحيل كلّها خلاً، وهذه حلال بالإجماع.
أمّا اقتناء الخمر لتخليلها فلا يباح بحال، والأدلّة على تحريم اقتناء الخمر لاتّخاذها خلاّ كثيرة منها: ما رواه التّرمذي عَنْ أَبِى طَلْحَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْرًا لأَيْتَامٍ فِى حِجْرِي. قَالَ صلّى الله عليه وسلّم : (( أَهْرِقِ الْخَمْرَ وَاكْسِرِ الدِّنَانَ )). ووجه الدّلالة من وجهين:
أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أطلق الحكم ولم يُرخِّص في اتّخاذها خلاّ، والخلّ مالٌ، وقد نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن إضاعة المال.
وأطلق النّهي ولو كانت لأيتام.
- وروى مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا ؟ فَقَالَ: (( لَا )).
السؤال الثالث عشر :
ما حكم العمل في المطاعم والمقاهي: نادلا (camarero)، ، أو طباّخا أو غسّالا للأواني أو منظّفا ؟
وما حكم العمل في جني عنب الخمر بحجّة الضّرورة، وسمعت من حدّدها بثلاثة أيّام ؟
الجواب :
إذا كان المقهى أو المطعم يقدّم فيه لزبائنه الحلال والحرام، جاز للمسلم العمل فيه بشرط أن لا يباشِر الحرام بنفسه، فلا يحلّ له أن يقدّم الخمر، أو لحم الخنزير للزّبائن، أو يتولّى شراء ذلك، هذا كلّه من حيث الحل والحرمة، والأفضل للمسلم أن يبتعد عن مواطن المحرّمات بل الشّبهات.
أما العمل في جني عنب الخمر فإنه محرم لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }، و عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : (( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَالْمُشْتَرَاةُ )).
أما تحديد جواز ذلك بثلاثة أيام فممّا لا دليل عليه.
السؤال الرابع عشر :
-ما حكم الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بحجة ؟ وهل يجوز الصلاة بلباس العمل ؟
الجواب :
فالأصل في الصّلاة أن تؤدّى لوقتها، لقوله تعالى:{ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) } [النّساء]، وسئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ: (( الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا )).
ولكن شرع الله الجمع بين الصّلاتين في حالة المطر، والسّفر، والخوف، وهذا لا خلاف فيه. إنّما اختلفوا في الجمع في الحضر إذا كان هناك حرج، والصّواب جوازه لما رواه مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: (( جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا أَرَادَ إِلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ )).
فهذه الرخصة تجوز عند الحاجة، لكن بشرط أن لا يكون ذلك على وجه الاستمرار، لأنّه لم يكن من هديه صلّى الله عليه وسلّم ،وإنّما فعله أحيانا للحاجة.
ومن الحاجة في عصرنا عمل شرطيّ المرور الّّذي لا يمكنه ترك عمله لما فيه من مصلحة المسلمين، أو الطّبيب الّذي يعلم أنّ العمليّة الجراحيّة ستستغرق وقتا طويلا تفوته به الصّلاة، وبناءً على هذا فالجمع بحجة ضيق وقت الراحة أثناء العمل غير جائز، والله أعلم.
أما الصلاة بلباس العمل فتجوز إن لم يكن عليه نجاسة، و الأولى للمسلم أن يتّخذ لباسًا خاصًّا للصّلاة، لما رواه أبو داود أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ )) [وصحّحه الألباني رحمه الله].
السؤال الخامس عشر :
-هل يجوز فتح حساب بنكي ( في بنك ربوي ) للضرورة، لأنه من الأوراق المطلوبة في ملفّ العمل ؟
الجواب :
لا يجوز فتح حساب في البنوك الربوية حتى ولو لم يأخذ عليها فائدة (ربا)، لأنّ هذا من التعاون على الإثم والعدوان، لكن إن كان من الأوراق المطلوبة في ملفّ العمل فيجوز للضّرورة، والضّرورة تقدر بقدرها، فلا يُبْقِي في حسابه من المال إلاّ ما يتمّ به فتح الحساب، والله أعلم.
السؤال السادس عشر :
- ما حكم تقاسم كراء بيت مع رجل متزوّج، وذلك لصعوبة وجود بديل، وما نصيحتكم ؟
الجواب:
إن كان هذا البيت لكافر فلا يجوز السكن معه، لما سبق من الأدلة، و لما في ذلك من تعرّض المسلم للفتنة بأخلاق الكفرة ونسائهم، أمّا إن كان البيت لمسلم متزوّج فالأولى اجتناب ذلك لخشية الافتتان والاختلاط بالنّساء، ويحاول المسلم أن يشترك مع أخٍ له في كراء بيت.
فإن كان ولا بدّ، فليجعل لنفسه مدخلا للبيت من غير المدخل المؤدّي إلى بيت المتزوّج، فإنّ الشّيطان يجري من الإنسان مجرى الدّم، ومن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
أمّا النصيحة: يزيد من ثمن الكراء ولا يفتح على نفسه باب شقاء، فليشترِ الهناء بالمال.
السؤال السابع عشر :
- عن بريدة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدَكُمْ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ )).
شيخنا، يكثر في إسبانيا عند المخاطبة قول: ( seneor / seneora، سيدي / سيدتي )، وأظنه لايستعمل حسب معناه في اللغة العربية، فما حكم ذلك ؟ وما معنى قوله: ( إِنْ يَكُ سَيِّدَكُمْ ) ؟
- ما حكم بدأ الكافر بالتحية من غير السّلام الشّرعي ؟
الجواب :
لا يجوز مخاطبة الكافر بأي عبارة فيها تسويد له، لأنّ في ذلك تعظيما له ونحن منهيّون عن ذلك.
قال الشّيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في " معجم المناهي اللّفظية "(297):
"سِستَر: هذه اللفظة في اللغة الانكليزية بمعنى الأخت، وقد انتشر في النداء بها في المستشفيات للمرضات وبخاصة الكافرات. وما أقبح بمسلم ذي لحية يقول لممرضة كافرة أو سافرة: يا سستر أي: يا أختي .. إلى أن قال: ومثله قولهم للرّجل: ( سير, أو مستر ) بمعنى : سيّد، فعلى المسلم أن يحسب للّفظ حسابه، وأن لا يَذِلّ وقد أعزّه الله بالإسلام ".
وقال في صفحة (303): " السيّدة عائشة رضي الله عنها، ههنا أمور: - ثم قال في الأمر الثاني- تسمية كل امرأة " سيدة " مسلمة كانت أو كافرة، صالحة أم فاسقة، هذا لا يجوز لأن تسويد الفاسق و الكافر مما نهى عنه الشرع المطهر، ومنه ما ثبت عن النبيّ عن بريدة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدَكُمْ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي )) " اهـ
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/771): " وأمّا أن يخاطب بسيدنا و مولانا ونحو ذلك، فحرام قطعًا، وفي الحيث المرفوع: (( لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ سَيِّدَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يَكُن سَيِّدَكُمْ فَقَدْ أَغضبتُمْ رَبَّكُمْ )).
أما بدأ الكافر بالتحية من غير السلام الشّرعي، فقد قال الشّيخ ابن عثيمين:
" ولا يجوز كذلك أن يُبدئوا بالتحية كأهلاً وسهلاً، وما أشبهها لأنّ في ذلك إكراماً لهم وتعظيماً لهم، ولكن إذا قالوا لنا مثل هذا فإننا نقول لهم مثل ما يقولون، لأنّ الإسلام جاء بالعدل وإعطاء كلّ ذي حق حقّه، ومن المعلوم أنّ المسلمين أعلى مكانة ومرتبة عند الله - عز وجل - فلا ينبغي أن يذلوا أنفسهم لغير المسلمين فيبدؤوهم بالسلام ".
وإذا كانت هناك حاجة داعية إلى بدء الكافر بالتحية جاز ذلك، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "زاد المعاد" (2/424) في ابتداء الكفار بالتحية: "و قالت طائفة - أي من العلماء -: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة تكون إليه، أو خوف من أذاه، أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك " اهـ .
أما معنى قوله: ( إِنْ يَكُ سَيِّدَكُمْ ) فقال صاحب عون المعبود : "قيل معناه : إن يك سيدا لكم فتجب عليكم طاعته، فإذا أطعتموه فقد أسخطتم ربكم، أو لا تقولوا لمنافق سيد، فإنكم إن قلتم ذلك فقد أسخطتم ربكم، فوضع الكون موضع القول تحقيقا له كذا في " المرقاة " ملخصا، وقال ابن الأثير: لا تقولوا للمنافق سيّد، فإنّه إن كان سيدكم وهو منافق، فحالكم دون حاله، والله لا يرضى لكم ذلك ".
السؤال الثامن عشر :
- هل إذا كان للمسلم أصدقاء كفّار في العمل أو غيره يطعن ذلك في مسألة الولاء والبراء ؟ وما ضابط البراء حفظكم الله؟
الجواب :
لا يجوز اتخاذ أصدقاء من الكفار لأن في ذلك موالاة لهم، و المسلم يجب عليه بغض أعداء الله ويتبرأ منهم، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}.
وقال أيضًا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ }، فكيف يليق بمسلم أن يصاحب عدو الله وعدوه ويصادقه ؟!
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نصه: " يسكن معي شخص مسيحي، وهو يقول لي: يا أخي، ونحن إخوة، ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا ؟
فأجاب رحمه الله : " الكافر ليس أخًا للمسلم، والله تعالى يقول: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، ويقول صلّى الله عليه وسلّم : ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ )) فليس الكافر - يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا أو مجوسيًا أو شيوعيًا أو غيرهم - ليس أخًا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبًا وصديقًا، لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبًا وصديقًا، وإنّما يصادف أن يأكل معكم، أو في وليمة عامة فلا بأس.
أمَّا اتخاذه صاحبًا وصديقًا وجليسًا وأكيلاً، فلا يجوز، لأنّ الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }، وقال سبحانه: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -يعني يحبون- وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [المجادلة: من الآية 22].
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرّهم ولا يتعدّى عليهم بغير حقّ، لكن لا يتّخذهم أصحابًا ولا أخدانًا، ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامّة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودّة فلا بأس " اهـ
( عن الموقع الرّسمي للشّيخ رحمه الله [رقم السّؤال (166)].
و هذا لا يعني المقاطعة التامة بين المسلم والكافر، بل يجوز معاملته بالرفق واللين -من غير مودة قلبية - إذا كان الغرض من ذلك دعوته وتأليف قلبه على الإسلام.
- أمّا البراء : فإنه يطلق في اللغة على عدة معان منها: البعد، والتنزه، والتخلص، والعداوة.
وقال الشيخ عبد الرزاق عفيفي : "والبراءة : مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله، وهذا أصل من أصول الإيمان ".
وهناك صور شتى ومظاهر عديدة للبراءة، منها :
- بغض المشركين والكفار، وإظهار العداوة لهم.
- هجر بلاد الكفر، وعدم السفر إليها.
- عدم مناصرة الكفار، ولا مدحهم، ولا إعانتهم على المسلمين.
- عدم مشاركتهم في أعيادهم وأفراحهم، ولا تهنئتهم بها.
- ترك الاستغفار لهم، و الترحم عليهم.
- هجر مجالسهم وعدم صحبتهم وبدئهم بالسّلام.
- عدم تعظيمهم بقول أو فعل.
السؤال التاسع عشر :
- في رأيكم –شيخنا- ما هي أحسن الوسائل للدعوة إلى الله، وتمثيل الصورة الحقيقية للإسلام في هذه الديّار ؟
الجواب :
إنّ الدعوة إلى الإسلام من فرائض هذا الدّين الحنيف، وقد جاءت النصوص الشرعية في التأكيد على مسؤولية المسلمين في القيام بهذا الواجب العظيم، قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي }، و يؤكّد الله هذا الواجب بقوله: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، قال ابن كثير: "و المقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه ".
ومن وسائل الدعوة في ديار الكفر :
1- المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة، و ذلك بمخاطبة المدعو - إن كان نصرانيًا - بنداء الفطرة المقتضي توحيد الله، ومنافاة الفطرة والعقل لعقيدة التثليث، وببيان سماحة الإسلام، وعدله، وإحسانه، وشمولية تعاليمه للجانب الروحي والنفسي، والعقلي، والعملي للإنسان، وتحقيق أحكامه للمصالح والمنافع والملذات الدنيوية والأخروية
2- الاطلاع على الشبه التي يثيرها الكفار ضد الإسلام مع معرفة الجواب عليها.
3- الحرص على اللين والرّفق في الدّعوة، مع التزام الابتسامة والكلمة الطيّبة مع المدعو، و لا بأس أن يصاحب ذلك بعض الهدايا لتهيئة القلب لاستقبال ما يرد عليه من الخير.
4- تقديم الأشرطة و المطويّات والكتب، خاصة القرآن (المترجم ترجمة تفسيريّة)، فإن تفكر الإنسان في الحق حال انفراده بنفسه أدعى لقبوله والإذعان له.
5- الاعتزاز بالدين، والالتزام بتعاليمه، وليعلم الداعي أن لسان الحال أبلغ من لسان المقال، وأن الدعوة بالسلوك والعمل أقوى في الإقناع، والقدوة الحسنة لا يساويها شيء في التأثير، يقول أحدهم عن سبب إسلامه : " فإن الفضل يعود إلى ذلك الرجل البسيط الملاّح الذي كان في تقواه حافزًا لي لأعود إلى الله وإلى الإسلام "، ويقول آخر وهو يتحدث عن عوامل نجاح الدعوة الإسلامية " كذلك نجد أن أداء الصلوات الخمس كل يوم على جانب عظيم من التأثير، سواء في جذب الناس أو الاحتفاظ بالمسلمين منهم ".
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: " كونوا دُعاة إلى الله وأنتم صامتون " فقيل: كيف ذلك ؟ قال: بأخلاقكم.
فعلى المسلمين في ديار الكفر أن يهتموا بسلوكهم الاهتمام البالغ، لئلا يستغل أعداء الدين خللهم وتقصيرهم في تشويه صورة الإسلام.
6- ومن وسائل الدعوة النافعة في هذا العصر، ما يعرف بالبريد الإلكتروني الذي يعدّ أفضل بكثير من البريد العادي من حيث عامل الوقت والكلفة، ويمكن استعمال هذه الأداة وذلك بإرسال رسائل إلى هؤلاء الكفار ودعوتهم إلى الإسلام، وإيراد الشبهات عليهم والتي أقل الأحوال أنها تزعزع ثقتهم بدينهم، وعناوين مثل هؤلاء الأشخاص يمكن الحصول عليها من طريق الصحف والمجلات التي تهتم بنشر عناوين قرائها.
السؤال العشرون :
- هل المسلم في ديار الكفر مطالب بالدّعوة إلى الإسلام وتبليغه، وهل يأثم إذا لم يحدث من يعرف عن الإسلام بنية الدعوة؟
الجواب :
تقدم الجواب عليه في السؤال السابق.
السؤال الحادي والعشرون :
- ما رأيكم –شيخنا- فيمن يرى بنظرية تقارب الأديان، وأنّنا كلنا عبيد لله، فلمَ الاختلاف مادام الجميع يعبد الله والغاية واحدة ؟
الجواب :
إنّ الدعوة إلى وحدة الأديان، والتّقارب بينها وجعلها في قالب واحد هي دعوة خبيثة ماكرة، الغرض منها خلط الحق بالباطل، وضرب الإسلام وهدم دعائمه، وجَرِّ أهله إلى الردة والكفر، ومصداق ذلك قوله تعالى: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا }، وقوله: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً }.
وأصول هذه الدّعوة ماسونية، تستغل النّصارى في القضاء على الإسلام، وإخضاع شعوبه، وتتخذ أسماءً جذابة مثل: الدّعوة العالمية، أو التوفيق بين النّصرانية والإسلام، أو الدعوة إلى الإيمان الإبراهيمي، أو حوار الأديان.
وتقوم فلسفة هذه الدعوة على زعم أن هناك قواعد مشتركة بين الإسلام والنصرانية، كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر، وتكريم أم المسيح عليه الصلاة والسلام، وأن الخلاف بين الإسلام والنصرانية خلاف شكلي وليس جوهري، ثم تبنت هذه الدعوة الصهيونية العالمية.
وتعتبر الفلسفة الهندية الجذور الأولى لهذه الدعوة، يقول شانكرا : " اعبد الله في أي معبد شئت، أو اركع أمام أي إله بغير تفريق "، وقد وجدت هذه الدعوة الباطلة عند اليهودية والنصرانية وبعض الفلسفات اليونانية، كما وجدت عند الباطنية وملاحدة الصوفية، قال الحلاج : " واعلم أن اليهودية والنصرانية والإسلام، وغير تلك الأديان هي ألقاب مختلفة، وأسماء متغايرة، والمقصود منها لا يتغير ولا يختلف"
ومن نتائج هذه الدعوة :
1- الصلاة المشتركة التي أقيمت في 27 أكتوبر 1987، وشارك فيها بعض مدعي الإسلام، بالإضافة للنصارى واليهود والبوذيين.
2- إنشاء جمعية : المؤمنون متحدون في أبريل 1987.
ومن أهدافها وأثارها :
1- المساواة بين الأديان، بما فيها البهائية والبوذية والماسونية والمؤمنون الأحرار.
2- إقامة مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد.
3- طبع القرآن الكريم المحفوظ، والتوراة والإنجيل المحرفين في غلاف واحد.
4- كسر حاجز النفرة بين المسلمين والكفار، فلا ولاء ولا براء ولا جهاد.
وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية، فإن الدعوة إلى: (وحدة الأديان) إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تتصادم مع أصوله، فالإيمان بهذه الفكرة رضا بالكفر بالله، ويبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، ويبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
لذلك أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى بهذا، وبينت فيه:
1- أنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها، والانتماء إلى محافلها.
2- لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردَين، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد!! فمن فعل ذلك أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجمع بين الحق (القرآن الكريم) والمحرف أو الحق المنسوخ (التوراة والإنجيل).
3-كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة: (بناء مسجد وكنيسة ومعبد) في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة ولأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى هي من عند الله -تعالى الله عن ذلك -.
كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس (بيوت الله) وأن أهلهـا يَعبـدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله؛ لأنهـا عبادة على غير ديـن الإسلام، والله تعالى يقول : (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))، بل هي : بيوت يكفر فيها بالله، نعوذ بالله من الكفر وأهله.
السؤال الثاني و العشرون :
- تقام محافل الكفار، وخاصة الدينية منها كـ ( semana santa ) أي: ( الأسبوع المقدس ) حيث تحمل الصلبان والأصنام وغيرها، وتسير القوافل بها عبر الشوارع، فما حكم حضور مثل هذه المحافل بحجة التعرف على ثقافات البلدان وحب الاطلاع لا غير ؟
الجواب :
إن العلماء قاطبة أجمعوا على لأنّ حضور أعياد الكفّار كبيرة من كبائر الذنوب، ومعصية لعلاّم الغيّوب، والأدلة على ذلك ما يلي:
1- قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72]، قال أئمّة التفسير كمحمّد ابن سيرين والرّبيع ابن أنس : " الزّور هو أعياد الكفّار".
2- وروى أبو داود عَنْ ثَابِت بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم : (( هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ ؟))، قَالُوا: لَا، قَالَ صلّى الله عليه وسلّم : (( هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟))، قَالُوا : لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم : (( أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ )).
3-روى أبو داود عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم : (( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )).
4- من العهود التي أخذها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة من النّصارى: ( ألاّ يُظهروا أعيادهم وشعائرهم، وإلاّ فلا ذمة لهم )، فكيف يأتي اليوم المسلمون فيحضروا هذه الأعياد الكفرية أو يظهروها.
5- وقال عمر رضي الله عنه: ( لا تدخلوا على النّصارى يوم عيدهم، فإنّ السخط والغضب ينزل عليهم ).
6- وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: ( من بنى بأرض العجم وشهد نيروزهم وعيدهم فمات فقد برئ من الإسلام ).
7- قال ابن القيّم رحمه الله في " أحكام أهل الذمّة ": " إنّ الاحتفال بأعياد الكفّار إن لم يكن كفرا فهو حرام "، وبمثله قال ابن تيمية رحمه الله.
وعل المسلم أن يعلم أنّ إظهار أو حضور شيء من شعائر النّصارى وأعيادهم فيه ولاء لهم، وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة:51]، وقال أيضًا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَق }.
السؤال الثالث و العشرون :
- ما حكم شرب شراب خميرة الجعة ( منزوع الكحول ) فهو مفيد في تصفية الكلى كما هو معروف ومجرب ؟، وما حكم استهلاك المواد الغذائية والأدوية التي تحتوي على كحول ؟
الجواب :
الأصل في مثل هذا الشراب الحل، ويدل لذلك قول الله – عز وجل - : "ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث" ، وأيضاً قول الله – عز وجل - : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة: من الآية29]، فهذا هو الأصل، ما لم يكن هناك محرم كخمر ونحوه.
قال الشيخ : عبد الرحمان بن أحمد بن فايع الجرعي عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد:
" وجود الكحول في المأكول والمشروب، فمن المعلوم أن الكحول مادة مسكرة أو مخدرة، وبالتالي فإذا وجدت في الأكل أو الشرب، وكانت مؤثرة فيه بمعنى أنه يترتب على التناول إسكار فالتناول في هذه الحالة حرام قطعاً؛ لأن علة تحريم الخمر، هي: الإسكار، وقد وجدت هنا، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
أمّا إذا كانت مادة الكحول الموجودة في المأكول أو المشروب قليلة ويسيرة، ولا يظهر أثرها، واستهلكت في المشروب ونحوه، فالصحيح أن هذه الكمية اليسيرة من الكحول لا أثر لها في تحريم هذا الطعام أو الشراب، فهو مثل النجاسة المستهلكة في الماء، فعلى القول الصحيح -إن شاء الله- أن هذه النجاسة ما لم يظهر أثرها في الماء، في طعمه، أو لونه، أو ريحه، فالماء باق على طهوريته قليلاً كان أو كثيراً، وفي (صحيح البخاري، ك72، ب12) – تعليقا- قَال أَبُو الدَّرْدَاء رضي الله عنه فِي الْمُرِي : ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ"، والنينان: جمع نون، وهو: الحوت، والمري: أكلة تتخذ من السمك المملح، يوضع في الخمر ثم يعرّض للشمس فيتغير طعمه عن طعم الخمر، ومعنى قول أبي الدّرداء رضي الله عنه هذا: أنّ الحوت لمّا ملِّح ووضع في الشّمس أذهب الخمر فصار حلالاً، ومما يدل على عدم الحرمة هنا: أن الخمر إنما حرمت لوصف الإسكار الموجود فيها، فإذا انتفى هذا الوصف انتفت الحرمة.
وممّا يشار إليه هنا أن البعض يظن أن المخلوط بالخمر حرام مطلقاً، سواء قلّت نسبة الخمر - بحيث لا تؤثر في المخلوط– أو كثرت، وظنوا أن ذلك هو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم : (( مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ )) [رواه أحمد (5648) واللّفظ له، وابن ماجة (3392)، والدارقطني (4/254)، وهو صحيح " الإرواء " برقم (2375)].
فقالوا: هذا فيه قليل من الخمر الذي يُسكر كثيره فيكون حراماً، وقد أجاب الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في " مجموع فتاويه " (4/260) عن هذا الفهم، فقال: يقال هذا القليل من الخمر استهلك في غيره فلم يكن له أثر وصفي ولا حكمي، فبقي الحكم لما غلبه في الوصف، وأما حديث "ما أسكر كثيره فقليله حرام" (سبق تخريجه) فمعناه: أنه إذا كان الشراب إن أكثر منه الشارب سكر، وإن قلل لم يسكر، فإن القليل منه يكون حراماً؛ لأن تناول القليل وإن لم يسكر ذريعة إلى تناول الكثير، ويوضح ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها-: قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : (( كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، مَا أَسْكَرَ الفَرْقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ )) [أخرجه أبو داود (3687)، والترمذي (1866)، وأحمد (24992)، وهو صحيح (الإرواء برقم 2376)]، والفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلاً. ومعنى الحديث: أنه إذا وجد شراب لايسكر منه إلا الفرق، فإن ملء الكف منه حرام، فهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم : (( مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ )) [سبق تخريجه] اهـ.
ومع ذلك فالأولى فيما يظهر لي -والله أعلم- أن يتجنب الإنسان تناول الأطعمة والأشربة المحتوية على هذه المواد المسكرة المستهلكة في الطعام والشراب ما لم يحتج إلى ذلك، لكن هذا من باب الورع لا التحريم، والله أعلم ".
السؤال الرابع و العشرون :
- نحن نفكر – شيخنا- في إنشاء مكتبة سمعية في مسجدنا " السّلام " سلّمكم الله -وهو في الحقيقة صغير المساحة- نقوم من خلالها بإعارة أشرطة مقابل سعر رمزي بغرض اقتناء أشرطة علمية وغيرها، ولمساعدة المسجد في حاجياته، لكن المشكل يا شيخ أنه لا يوجد مكان لهذا الأمر سوى هذا المسجد، ومن المعلوم حرمة هذه المعاملات في المسجد وما اتصل به، فما هو الحل شيخنا أثابكم الله ؟
الجواب :
الحكم كما جاء في السؤال، وهو عدم جواز هذه المعاملات في المسجد، والحل هو أن يوضع صندوق - في المكتبة- للتبرعات دون إلزام.
السؤال الخامس و العشرون :
- ما حكم زواج المصلحة، أي: زواج الأوراق ؟ وهل ينعقد هذا الزواج ويصبح له حكم الزواج الشرعي ؟
الجواب :
1-إذا كان الاتفاق بين الرجل والمرأة على الزواج إلى مدة مؤقتة لاستخراج أوراق معينة ثم يكون بعد ذلك الطلاق فإن هذا من نكاح المتعة المحرّم.
2-وإذا كان الزواج دون اتفاق، وإنما في نية الزوج أنه إذا استخرج الأوراق فإنه سيطلقها فهذه مسألة (النكاح بنية الطلاق)، وقد اختلف فيها أهل العلم، والرّاجح أنّه محرّم لما فيه من الظّلم والتّغرير بالمرأة، ولا يرضاه المرء لابنته ولا لأخته فكيف يرضاه لغيرهنّ.

السؤال السادس و العشرون :
- شيخنا ما هي نصيحتكم للآباء في تربية أبنائهم، وما هي الطريقة المثلى لذلك في هذه الديّار ؟ وما هي الوسيلة التي يمكن بها تعليم الصغار اللغة العربية والمحافظة علة ألسنتهم ونطقهم ؟
الجواب :
إنّ تربية الأبناء مسؤولية كبيرة، وواجب عظيم يشترك فيه الآباء والأمّهات، فالأبناء أمانة، والوالدان مسؤولان أمامَ الله عن هذه الأمانةِ، روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ))، وقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ))، وهذه بعض النصائح والتوجيهات :
1- يجب التذكير بأن مرحلة الطفولة مرحلة مهمّة جدا في توجيه الولد وتأديبه، وهي مرحلة تأسيس لكثير من أخلاقه وطباعه وتفكيره، لهذا فليحذر الأب من إدخاله المدارس الأجنبية، و عليه أن يلحقه بأي مدرسة إسلامية.
2- تعميق الإيمان بالله ورسوله في قلوب الأبناء، وتحببيب الإسلام لهم، ولا بأس من التفنن في الأساليب والوسائل والاستعانة بالقصص والروايات وغيرها.
3- تثبيت عقيدة الولاء والبراء في أنفسهم، والتركيز على عداوة الكفّار وبغضهم.
4- يجب الاستعانة بالله دائما وأبداً في تثبيت الدين في القلوب، ثم الاستعانة بالمراكز الإسلامية هناك لتزويدهم بما يعين على الحفاظ على الأبناء ودينهم من التغريب في بلاد الكفر والذوبان في معتقداتهم.
5- كسب قلوب الأبناء واحتوائهم وشمولهم بالرعاية، والحنان، والحب، والعطف، والهدايا.
6- لا بد أن يكون بين المسلمين الملتزمين هناك تواصل وتزاور بهدف إيجاد البيئة المسلمة للأطفال، حتى يزدادوا قناعة بدينهم لما يجدوا غيرهم متمسكين به وبمبادئه.
7- الحذر من الاختلاط بأبناء الكفّار ومصاحبتهم، واجتناب الذهاب إلى المنتزهات و أماكن اللهو.
8- الحرص على تحفيظهم كتاب الله تعالى، ومتابعة ذلك، مع تقديم الهدايا والمكافآت، و تعليمهم أصول العقيدة الإسلامية والآداب والأذكار الشرعية، و التأكيد على تعليمهم الوضوء والصلاة، وذلك بالتطبيق العملي أمامهم.
9-يجب أن يكون الآباء والأمهات قدوة صالحة لأبنائهم، من خلال الاعتزاز بالدين والفرح به، والتمسك بمبادئه وتعاليمه.
10- لا تنسوا كثرة الالتجاء إلى الله بالدعاء وحده أن يثبت أبناءكم على الدين، وأن يربط على قلوبهم بالحق فإنه لا يرد سائله ولا يخذله، وتوكلوا عليه واعتصموا بأمره.
كما يجب العمل على تعليم الصغار اللغة العربية والمحافظة على ألسنتهم ونطقهم ، ولتحقيق ذلك ننصح بما يلي:
1-الاجتهاد على التكلم باللغة العربية في البيوت، وأن يكون الوالدان قدوة للأولاد في هذا، وأن يتعمّدا أحيانا عدم إجابة الولد إذا لم يتكلّم باللغة العربية.
2- الحرص على إدخال الأولاد المدارس والأكاديميات العربية ما أمكن ذلك.
3- العيش في تجمعات سكنيّة عربية.
4- الاجتهاد في إقامة دورات لتعليم اللغة العربية و متابعة ذلك في الكتب والأشرطة والوسائل التعليمية الحديثة.
5- السماع المستمر للقرآن الكريم المسجّل وأشرطة الدروس والمحاضرات الإسلامية باللغة العربية.
7- تشجيع أفراد الأسرة على إلقاء بعض الكلمات، ولو ذكر حديث واحد مع شرحه.
8- الفــرار الفــرار قبل وقت الخسار، فإنّه لو عشّش حبّ بلاد الكفر في قلب الولد فلن يقدِر الوالد على نزعه مهما فعل.
السؤال السابع والعشرون :
-شيخنا ماهي درجة الخطورة في احتكاك المرأة المسلمة بالكافرة، وما درجة تأثير هذه الأخيرة بالمرأة المسلمة ؟ وكيف يمكن للمرأة المسلمة أن تساهم في المحافظة على بيتها المسلم في ديار الكفر ؟
الجواب:
لا شك أنّ احتكاك المسلمة بالكافرة مضرّ لها في دينها، والكافرة لا تتخلّق بما تتخلّق به المسلمة، ولا تَدين لله تعالى بدين الإسلام، وعليه فإنّها لا تتورّع عن فعل ما يضرّ هذه المسلمة في أخلاقها ودينها، بل قد تسعى لإفسادها، كما أنّ مصادقتها والأنُس بها قد يولّد في القلب نوعاً من الرّضا ببعض ما تؤدّيه من شعائر دينها وتُضعف البراءة والمعاداة في الله.
والواجب على المرأة المسلمة أن تتّقي الله في نفسها وفي زوجها وأولادها، فتقوم بحقوق زوجها وتربية أولادها وتعليمهم، وأن تتعلّم أمور دينها، وأن تجتنب الخروج من بيتها إلاّ للضّرورة بالشّروط المعلومة، وأن تبتعد عن التشبه بالكافرات في تسريحة شعرها ولباسها وزيّها، وأن لا تلتفت إلى الدِّعايات المغرضة الّتي تريد أن تسلب المرأة كرامتها وعفّتها، فتدعوها إلى الخروج عن الآداب الشرعية والتمرد على زوجها، ولتحذر المرأة كل الحذر من الاختلاط بالكافرات والفاسقات، ويجب عليها المحافظة على بيتها فلا تدخله من لا يرضى دينها، وأن تعمل على جعل منزلها روضة من رياض الجنّة، فتخرج منه كلَّ المنكرات والمحرمات من تلفاز وموسيقى وصور، وتعمِّرَه بذكر الله و الصّلاة والأعمال الصّالحات.
السؤال الثامن والعشرون :
- في رأيكم -شيخنا- ما هي أهمّ الكتب و العلوم الشّرعية الّتي يجب أن تدرّس في ديار الكفر، والّتي يجب أن توجد في البيت المسلم، والّتي يجب أن يوليها الأئمّة أكبر اهتمام ؟
الجواب :
من جهة كونكم في دار كفر، وكون أهلها يدينون بالباطل، وهم على كفرهم لا يعتدون على المسلمين اعتداءً في أبدانهم، فهذا المجتمع يصنّف في المجتمع الحبشيّ الّذي يجب فيه على المسلمين أن يكونوا فيه دُعاة إلى الله عاملين، لا أن يكونوا في مجتمع الكافرين ذائبين وعن العمل خاملين. وذلك لن يكون أبدا إلاّ بدراسة:
1- كتب الردّ على النّصارى والسّبيل إلى دعوتهم بالحجّة والبرهان، وردّ شبههم بالدّليل والبيان.
2- كتب العقيدة والتّوحيد الصّحيح، لانتشار أهل البدع هناك بشكل رهيب وبخاصّة أهل الطّرق الصّوفيّة.
3- كتب الأخلاق والتّزكية، فإنّ ذلك ممّا يعِين على نشر الدّعوة.
السؤال التاسع والعشرون :
- ما رأيكم شيخنا فيمن يقول إنّ مال الكافر الّذي بلده يعادِي الإسلام ويحاربه غنيمة، ولا بأس في أخذه بطريقة أو أخرى، ولا إثم في ذلك ؟
الجواب :
من دخل بلاداً في أي دولة بأمان وبعهد وذمة فلا يجوز له نقض العهد، ولا يجوز النهب ولا السلب ولا القتل ولا الغصب، ولا الاعتداء على الأموال أو الأعراض أو الأنفس، ولو كان أهل تلك الدولة كفاراً أو حربيّين أو مخالفين في الدّين، لأنّه دخل بعهد وأمان، والأدلّة على ذلك:
1- قوله تعالى : (( فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) (التوبة: من الآية4 )
2- وقال سبحانه : (( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً )) (الاسراء: من الآية34)
3- أن ذلك من الغدر والخيانة، روى البخاري عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ قالا: كَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم "أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ."
قال ابن حجر في (الفتح 5/402) :" ويستفاد منه – أي من الحديث – أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدى إلى أهلها مسلماً كان أو كافراً، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة " .
4- وروى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: (( اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَاب )) فلا يجوز الظلم بحال ولو كان للكفار.
ومن يستحلّ أخذ أموال الكفّار فمذهبه قائم على قول اليهود: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }.
ومن أقوال أهل العلم :
قال الشافعي رحمه الله في " الأمّ " (4/284) : " وإذا دخل رجل مسلم دار الحرب بأمان .. وقدر على شيء من أموالهم لم يحل له أن يأخذ منه شيئا قل أو كثر؛ لأنّه إذا كان منهم في أمان، فهم منه في مثله، ولأنّه لا يحلّ له في أمانهم إلاّ ما يحلّ له من أموال المسلمين وأهل الذمّة ".
وقال السرخسي الحنفيّ في " المبسوط (10/96): " أكره للمسلم المستأمن إليهم في دينه أن يغدر بهم لأنّ الغدر حرام "، والكراهة عند السّرخسيّ هنا معناها التّحريم.
وقال ابن قدامة في " المغني " (9/237): "وأمّا خيانتهم فمحرّمة، لأنّهم إنّما أعطوه الأمان مشروطا بتركه خيانتهم وأمنه إيّاهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورا في اللّفظ فهو معلوم في المعنى، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضا لعهده، فإذا ثبت هذا لم تحلّ له خيانتهم لأنّه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : ((المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ )) فإن خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئا وجب عليه ردّ ما أخذ إلى أربابه، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان ردّه عليهم، وإلاّ بعث به إليهم، لأنّه أخذه على وجه حرم عليه أخذه فلزمه ردّ ما أخذ، كما لو أخذه من مال مسلم ".
وقال المرغينانِي: " وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحلّ له أن يتعرّض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم " [بداية المنتهي (ص: 118)].
ومن المفاسد المترتبة على الإقدام على مثل هذا العمل :
- فيه تشويه لصورة الإسلام، والمسلم مطالب بحفظ سمعة الإسلام وسمعته، ولا يجوز له أن يدنسها لأجل المال، ولا أن يصد عن دين الله بمثل هذه الممارسات.
- المسلم بهذا العمل يعرض نفسه وأهله وذويه للخطر من سجن، أو طرد، أو إيذاء، وهو في غنى عن كل ذلك، وليس للمسلم أن يذل نفسه، ولا يجوز أن يعرض من تحت يده للفتن حين يلقي بنفسه بأسباب تؤدي به إلى السجن والانقطاع عنهم.

السؤال الثلاثون :
-هل يجب احترام كلّ قوانين البلد المقام فيه وتطبيقها أو هناك تفصيل ؟
الجواب :
إذا دخل المسلم بلاد الكفر فقد دخل بعقد والتزام، وعهد وميثاق، وحينئذ يجب عليه الوفاء بالعهد والعقد، وأن يلتزم بأنظمة البلد الذي دخل إليه، فإن ذلك مقتضى تأشيرة الدخول، ولكن عليه أن يتجنب من تلك الأنظمة ما يخالف الشريعة الإسلامية، بل لا يجوز له أن يعمل بشيء من ذلك، فإن أُكره على ذلك فيتأكّد عليه الهجرة أكثر من قبل.
السؤال الواحد والثلاثون :
-ماهو ضابط وشروط الزّواج من الأجنبيّات ( النّصرانيّات )؟
الجواب :
الأصل هو حِلّ نساء أهل الكتاب عند جمهور أهل العلم، لقوله تعالى: { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ }.
ولكنّ هناك شروطا متّفقا عليها، وذلك لنصّ القرآن أو السنّة عليها، وإنّ هناك شروطا مختلفا فيها، وشروطا اشترطها الفقهاء من بعد لتغيّر الزّمان وأحوال النّاس، ومجمل هذه الشّروط ما يلي:
1- الإحصان: وهذا شرط نصّت عليه الآية، والمقصود من قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [المائدة: من الآية5]، والمقصود بالإحصان هنا: العفّة والحرّية.
وهذا الشّرط ليس بغريب فهو يشترط أيضا في نكاح المسلمة أيضا، قال تعالى في اشتراط العفّة:{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [النور:3]، ولا يتسامح في هذا الشّرط بحال من الأحوال لا مع المسلمة ولا مع غيرها.
وقال تعالى في اشتراط الحرّية:{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات} [النّساء: من الآية25]، وهذا الشّرط يتسامح فيه مع المسلمة إذا لم يستطع المسلم نكاح الحرّة وخشي على نفسه العنت، وإن كان يُفضي إلى أن يصير ابنها عبدا تابعا لها فيملكه مالكها.
ولا يُتسامح في هذا الشّرط مع الكتابيّة، لسببين اثنين:
أوّلا: لدخول النّقص عليها من جهتين: جهة الكفر، وجهة الرقّ.
ثانيا: أنّ الأمة المسلمة إذا ولدت يصبح ولدها ملكا لمالكها وهو المسلم، فحتّى لو باعها فإنّه لا يبيعها لكافر، أمّا الأمة الكافرة يمكن بيعها لكافر، وهناك يدخل الولد تحت ولاية الكافر تبعا لأمّه، والله يقول:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [النساء: من الآية141].
وممّن فسّر الإحصان بالعفّة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقد أخرج البيهقيّ في " سننه " (7/172) وابن أبي شيبة في "المصنّف" (3/474) عن أبي وائل قال: تزوّج حذيفة رضي الله عنه يهوديّة، فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن يفارقها، فقال: ( إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَدَعُوا المُسْلِمَاتِ، وَتَنْكِحُوا المُومِسَاتِ ) قال البيهقيّ: " وهذا من عمر رضي الله عنه على طريق التّنـزيه والكراهية، ففي رواية أخرى أنّ حذيفة رضي الله عنه كتب إليه: أحرام هي ؟ قال: ( لا، ولكنّي أخاف أن تعاطوا المومسات منهنّ ) قال أبو عبيدة: يعني العواهر.
وقال الشّعبي في قوله تعالى:{ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ }: " إحصان اليهودية والنّصرانية: أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها.." [ " أحكام القرآن " للجصّاص (2/324) ]، وممّن قال بذلك: السدّي، ومجاهد وسفيان.
2- ألاّ تكون في دار الحرب:
إنّ آية المائدة الّتي دلّت على جواز زواج المسلم بالكتابية، لم تفرّق بين أن يتزوّجها في دار الإسلام أو في دار الحرب.
ولكن دار الحرب تختلف عن دار الإسلام، بأنّ السّيطرة في دار الإسلام للمسلمين الذين هم أهل الحل والعقد، يحكمون بشريعة الله التي أنزلها في كتابه وفي سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، وتظهر فيها شعائر الإسلام، واحتمال ميل الزوجة إلى دين زوجها المسلم وارد، كما أن احترامها لآداب الإسلام، وعدم مجاهرتها بما يخالفها أقرب، إرضاءً لزوجها الذي يغيظه مخالفة دينه في الأخلاق وارتكاب المحرمات، وإن تساهل فيه مراعاة لمعتقدها الذي تزوجها مع علمه به.
وهذا بخلاف دار الحرب التي تكون الهيمنة والسيطرة فيها للكفار الذين هم أهل الحل والعقد، والحكم فيها إنما يكون بقوانينهم التي تخالف الإسلام، كما أن الشعائر الظاهرة فيها هي شعائر الكفر، وليست شعائر الإسلام، والأخلاق السائدة فيها هي أخلاق الكفار.
ولهذا تكون الزوجة الكتابية في بلاد الحرب، أكثر تمسكا بدينها وأخلاقها وعاداتها، وأقل ميلا إلى دين زوجها وأخلاقه بل إنه ليخشى على زوجها المسلم أن يتأثر بمحيط الكفر الذي يعيش فيه، ويخشى أكثر على ذريته من التدين بدين أمهم التي تربيهم عليه.
ولهذا اختلف العلماء الذين أجازوا زواج المسلم بالكتابية في دار الإسلام، في زواجه بها في دار الحرب.
- فقد ذكر القرطبي رحمه الله: أن ابن عبّاس رضي الله عنه سئل عن نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا ؟ فقال: " لا يحلّ-وتلا قوله تعالى:{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله تعالى:{ وَهُمْ صَاغِرُونَ } قال الرّاوي عنه: حدّثت بذلك إبراهيم النّخعي فأعجبه-يعني أنّ إبراهيم يقول بالتّحريم كذلك- وكره مالك تزوّج الحربيات، لعلّة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير. اهـ [ الجامع لأحكام القرآن 3/69 ].
فمذهب ابن عبّاس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي، تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، ويحتمل أن تكون كراهة الإمام مالك رحمه الله لذلك، كراهة تحريم.
كما أنّ امرأته الحربيّة قد تنشئ أولاده وتربّيهم على النّصرانية وبغض المسلمين، وغير ذلك من المفاسد المترتبة على زواجه بالحربية في دار الحرب.
وقد صرّحت كتب المذاهب الفقهية بكراهة الزواج بالكتابية في دار الجرب، إلا أن بعضهم يفسرون الكراهة بكراهة التحريم، وبعضهم يفسرونها بكراهة التنزيه، ورجّح الفقيه الحنفي محمّد أمين المشهور بابن عابدين رحمه الله أنّ الكراهة هنا كراهة تحريمية، وليست كراهة تنزيه. [حاشية رد المحتار على الدر المختار (3/45)].
وصرّح الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه " الفقه الإسلامي وأدلّته " (7/145) أن الحنفية يحرمون الزواج بالحربية في دار الحرب.
وقال في " الشّرح الصّغير " (2/420) في المذهب المالكي: " وتأكد الكره-أي الكراهة-إن تزوجها بدار الحرب، لأن لها قوة بها لم تكن بدار الإسلام، فربما ربت ولده على دينها، ولم تبال باطلاع أبيه على ذلك ".
وقال النووي رحمه الله في " المنهاج " (2/187): "وتحل كتابية، ولكن تكره حربية، وكذا ذمية على الصحيح" وقال في الحاشية: "لكن الحربية أشد كراهة منها ". وكذلك قال ابن قدامة في " المغني " (9/292-293).
وقال ابن القيم رحمه الله في " أحكام أهل الذمّة " (2/420):
"وإنّما الّذي نصّ عليه أحمد، ما رواه ابنه عبد الله، قال: أكره أن يتزوّج الرّجل في دار الحرب، أو يتسرّى من أجل ولده، وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: لا يتزوّج ولا يتسرّى الأسير، ولا يتسرّى بمسلمة، إلاّ أن يخاف على نفسه، فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد ".
وبهذا يظهر أن مذهب الإمام أحمد، أكثر صراحة في تحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، بل لا يبيح له وطء أمته المسلمة أو امرأته في دار الحرب إلا للضرورة، مع توقي إنجاب الولد. ويلي مذهب الإمام أحمد في الصراحة بالتجريم المذهب الحنفي.
أسباب تحريم العلماء زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب.
والذي دعا العلماء إلى القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب أو كراهته، يتلخص في ثلاثة أمور رئيسة:
الأمر الأول: الخوف على ذرية المسلم المولودين في دار الحرب.
من أن يُرَبُّوا على غير دين أبيهم، فيكون بذلك قد غرس لأعداء الإسلام غرسا يكثر به سوادهم، ويخسر بذلك المسلمون الذين هم أولى بتكثير سوادهم، وقد علم أن حفظ النسل ضرورة من ضرورات الحياة التي يجب حفظها وحمايتها، والمقصد الأساسي من حفظ النسل البشري في الأرض، أن يكون النسل محققا لعبادة الله، لأن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذّاريات: 56].
الأمر الثاني: الخوف من اختيار المسلم المقام بين ظهراني الكفار الحربيين، لما في ذلك من المفاسد:
المفسدة الأولى: مخالفة الأمر بالهجرة إلى بلاد الإسلام. وفي ذلك تعريض المسلم نفسه لعذاب الله وسخطه، وإذلال نفسه لعدوه.
المفسدة الثانية: تكثير سواد الكافرين، وتقليل سواد المسلمين، وفي ذلك تقوية للكفار، وإضعاف للمسلمين.
المفسدة الثالثة: تعريض ذريته للكفر، أو الاسترقاق، ولو كانوا مسلمين، ذلك أن امرأته قد يأسرها المسلمون وهي حامل، فيكون ولدها رقيقا.
المفسدة الرابعة: ما قد يتعرض له المسلم من المنكر، ومن ذلك تعاطي المحرمات التي قد لا يستطيع الإفلات من تعاطيها، ومشاهدة المنكرات الكثيرة التي تجعله يألفها ولا ينكرها قلبه، بل قد يموت قلبه فيرضى بها لكثرتها.
المفسدة الخامسة: ما تمارسه امرأته من منكرات، فقد تمارس أنواعا كثيرة من تلك المنكرات، وقد يميل مع طول الوقت والمعايشة، إلى كثير من تلك المنكرات المخالفة لدينه، إن سلم من الارتداد عنه.
ومن هنا يبدو رجحان القول بتحريم زواج المسلم بالكتابية في دار الحرب، لأن زواجه بالكتابية في دار الإسلام مباح مع الكراهة، ومعلوم أن تناول المباح إذا أدى إلى مفاسد تفوق المصلحة من تناوله، غلب جانب المفسدة الراجحة فيدخل في الحرام بذلك، ومفاسد نكاح الكتابية في دار الحرب تفوق المصالح المترتبة عليه كما هو واضح مما تقدم، و الله تعالى أعلم.
فلا غرابة من اشتراط الباحثين والعلماء اليوم شروطا كثيرة في جواز الزّواج من كتابيّة، فهي كلّها مستقاة من تلكم المقاصد الّتي بُثَّت في كتب العلماء القدماء حيث النّقاء والصّفاء، فكيف في عصر ذاعت فيه الفحشاء، ومجملها:
التأكّد من كونها من أهل الكتاب.
الإحصان.
ألاّ تكون حربيّة.
توفّر شروط العقد.
عدم الخشية على الأولاد: من الانسلاخ من الدّين، وأكل الحرام.
رجاء إسلام تلك المرأة.
أن يكون المسلم متين العقيدة.
أن يكون مستقيما على تعاليم الإسلام.
وإلاّ، فإنّه آثم بزواجه ووقع فيما حذّر الله منه:{ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [البقرة: من الآية221].
السؤال الثاني والثلاثون :
- قرأت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (23/164) قوله:
( ويرخّص للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يأتي بعض ما ينهى الناس عنه إن كان إتيانه بغرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسما لمادة الفساد، فيجوز له حضور مجالس المنكر بغرض الإنكار على أهله، ويجوز له التخلّف عن صلاة الجمعة أحيانا لينظر من لا يصليها فيعاقبه.. ).
هل هذا الأمر يعمّ كلّ من يأمر أو ينهى، أو هو خاصّ بمن ولاّهم الحاكم كهيئة الحسبة ؟ وما معنى قول شيخ الإسلام: ( يأتي بعض ما ينهى الناس عنه ..) هل معناه أن فعل ذلك الأمر أو إتيانه بمعنى حظوره ؟
الجواب :
الله أعلم، ولم أقف على كلامه هذا، فإن صحّ عنه ذلك، فلا بدّ من النّظر أهو ناقل لكلام غيره ليردّه، أو نحو ذلك، فإن كان قد قاله فهو مخالف للنّصوص الكثيرة والثرّة الغزيرة الّتي تنهى المسلم أن ينهى عن الشّيء ويأتيه، ومخالف أيضا لما ذكره رحمه الله في موضع آخر فقال:
" ولا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة، كما في الحديث أنّه قال: (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الخَمْرُ )) ورُفِع لعمر بن عبد العزيز قومٌ يشربون الخمر فأمر بجلدهم فقيل له: إنّ فيهم صائما. فقال: ابدءوا به، أما سمعتم الله يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } ؟ فبيّن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنّ الله جعل حاضرَ المنكر كفاعله، ولهذا قال العلماء: إذا دُعِي إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر، لم يجز حضورها، وذلك أنّ الله تعالى قد أمرنا بإنكار المنكر بحسب الإمكان، فمن حضر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بترك ما أمره به من بغضّ إنكاره والنّهي عنه ".
السؤال الثالث والثلاثون :
- هناك بعض الأسواق الأسبوعيّة وغيرها أين يباع فيها الأغراض المستعملة، وبعض السّلع الرّخيصة وغيرها، وهناك بطبيعة الحال بعض اللّصوص الذّين يبيعون سلعهم، ولكن في كثير من الأحيان لا يعرفهم المشتري، فهل هناك بأس على من يشتري في هذه الأسواق، وهل عليه التحقّق والسّؤال عن هذا البائع، أم الأمر واسع ؟
الجواب:
في مثل هذه القضايا فإنّ الحكم والعبرة بالغالب، فمتى غلب عليك شيء فعليك أن تحكم بموجبه:
فإِنْ كان الغالب على هذه الأسواق أن يباع فيها الأشياء المسروقة فلا يجوز الشّراء منها إلاّ ممّن يوثق به.
أمّا إن كان الغالب خلاف ذلك، جاز إلاّ إذا علم المشتري أنّ السّلعة مسروقة، أو أنّ البائع معروف بالسرقة.
هذا واللهَ نسأل أن يوفّقنا وإيّاكم لما يحبّه ويرضاه، وأن يثبّتنا على طاعته وتقواه، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وكتبه أبو جابر عبد الحليم توميات لأخيه الفاضل والعزيز أبي عبد الرّحمن الأندلسيّ المالق

0 التعليقات:

إرسال تعليق