عقوق الوالدين (2)

ملخص الخطبة

1- حقيقة العقوق. 2- صور من العقوق. 3- مفاهيم خاطئة يجب أن تصحح، ومفاهيم ضائعة يجب أن تسترجع.


الخطبة الأولى

أما بعد: فإننا تحدثنا معكم في الخطبة الأخيرة عن حق الوالدين الذي هو من أعظم الحقوق، وذكرنا أن عقوقهما من أبشع أنواع العقوق، ولقد سمعتم آيات الله تتلى عليكم وأحاديث رسول الله تسرد على مسامعكم، كلها تدل على أن عقوق الوالدين كبيرة من الكبائر.

بقي علينا إذن أن نعرف معنى عقوق الوالدين.

قال العلماء: عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة، كما أن برهما هو موافقتهما على أغراضهما.

أي: إذا أمر الوالدان ابنهما أو بنتهما بشيء مباح حلال صار في حقه واجبًا، فالحلال والمستحب يصير بأمر الوالدين واجبًا فرضًا، إلا إذا أمرا بمحرم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال تعالى: وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـٰحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].

لا تطعهما في معصية الله لأن الله أولى بالطاعة، ولكن صَـٰحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا فلا قطيعة ولا نهر ولا هجر، جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيتُ رسول الله فقلت: يا رسول الله، قدمت عليَّ أمي وهي راغبة أفأصِل أمي؟ قال: ((نعم صلي أمك)).

هذا في حق الوالدين المشركين، فكيف تتثاقل ـ أيها المسلم ـ في طاعتهما وهما على الإسلام وطاعة رب الأنام، فقد بلغنا أن رجالاً يمنعون نساءهم من صلة والديهن، وبعض النساء يأمرن أزواجهن أن يقطعن الصلة بوالديهم. ألا فلتتق الله أيها الرجل واتقي الله أيتها المرأة، وتذكرا جيدًا أنكما تأمران بعضكما بعضًا بالمنكر، وتقطعان ما أمر الله به أن يوصل فمهما عمل الوالدان ـ ولو كان مشركين ـ فإنه يحرم على المسلم قطيعتهما في كل حال.

إن كان الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه أوعده الله الوعيد الشديد والعذاب الغليظ فكيف بمن أضحى يأمر بالمنكر، وأيّ منكر؟! يأمر بعقوق الوالدين والعياذ بالله.

فيا عبد الله، دع واطرح الخلافات التي بينك وبين أصهارك، ولا تحمّل زوجتك همّك.

كذلك أنت يا أمة الله، إن كنت تأذيت من أصهارك فتحلّي بالصبر والعفو والصفح الجميل، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [المائدة:8].

ونود في هذه العجالة أن نتكلم عن بعض المفاهيم التي غابت عن أذهان مجتمعاتنا في أيامنا هذه. من تلكم المفاهيم أن كثيرًا من الأبناء لا يبالون بأوامر الوالدين ونواهيهما، فيحملون الأوامر على أنها مجرد عروض وطلبات، له أن يمتثل وله ألا يمتثل.

كلا أخي الكريم أيّ أمر صادر من الأبوين وجب عليك القيام به، فإذا نهاك الوالدان عن السهر فامتثل، وإن نهاك الوالدان عن مخالطة أصحاب السوء فاجتنب، وإذا أمراك بالعمل وكان بقدرتك ذلك فأطع، وإن أمراك ـ أيها الطالب ـ بالاجتهاد في دراستك فيجب عليك الاجتهاد، إلى غير ذلك ممّا يتهاون النّاس فيه، وإلا كنت عاصيًا لربك، عاقًا لوالديك بذنبك.

واسمع إلى ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال له النبي: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، فقال: ((ففيهما فجاهد)). وفي رواية أخرى قال: تركتهما يبكيان، فقال: ((اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما)).

هذا في حقّ الجهاد إذا كان فرض كفاية، الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، يسقط وجوبه إذا لم يأذن الوالدان، فكيف بالأعمال الأخرى؟‍! حتى قال سفيان الثوري: "لا يغزو إلا بإذنهما وإن كانا مشركين".

كل هذا الكلام في بيان أن المباح أو المندوب قد يصير واجبًا بأمر الوالدين، وأن فرض الكفاية قد يسقط بنهيهما عنه.

أما المعاشرة السيئة لهما فذلكم ـ والله ـ هو الخسران المبين، فالله تعالى قد حرّم على المسلم مجرد التأفف وهو قولك: "أف" بحضرة الوالدين، ولو كانت هنالك كلمة هي أدنى من ذلك لذكرها المولى سبحانه، فكيف بمن ينظر إليهما نظرة الغاضب؟! كيف بمن يحرك يديه؟! كيف بمن يصرخ عليهما؟! كيف بمن يقول لهما: "لا" بملء فيه؟! كيف بمن يتهمهما بالقصور وضعف التدبير؟! كيف بمن يغلق الباب في وجوههما؟! كيف بمن سمعنا أنه يبصق عليهما؟! كيف بمن حلف ألا يزورهما؟! كيف بمن هانا عليه فألقى بهما في دار العجزة؟! كيف بمن تعس وانتكس وطبع الله على قلبه فسبّهما وضربهما؟!

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ [الإسراء:23].

ذكر الله حالة الكبر لينبهك إلى أنه يحرم عليك التأفف بحضرتهما ونهرهما حالة يكونان فيها كبيرين، يحتاجان إلى برّك ومودّتك وإلى عطفك وكلامك؛ لأنهما في هذه الحالة ربما أتعباك بالسعي عليهما، فتغسل عنهما الأذى كما غسلاه عنك في صغرك، وتحملهما كما حملاك في صغرك، وقال تعالى: عِندَكَ لينبهك إلى أن طول المكث يشعرك بثقلهما عليك، فيحصل لك الملل والكلل فلا تقل: أُفّ، هذا أقل شيء يحرم عليك فعله، وهو أن تظهر بتنفسك المتردد ضجرا، فحذار حذار.

وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23] كقولك: "لا بأس عليكما"، "خدمتكما واجبة عليّ"، "حفظكما الله".. وهكذا.

وهذا هو الجهاد فيهما كما أمر ، وإلا فاستمع إلى المصطفى وهو يقول: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه)) أي: ذلّ وصغر، فقيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)) فكأنه يدعوك إلى أكبر ربح يناله العبد ألا وهو القيام ببر والديه، فبّرهما مفتاح الجنة.


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجميعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاعلموا أن من المفاهيم الضائعة مفهوم النفقة على الوالدين إذا كانا محتاجين، فقد أجمع العلماء واتفقوا على أن الوالدين إذا كانا في حاجة حقّ لهما أن يأخذا من مال الابن أو البنت بقدر الحاجة لقوله : ((أنت ومالك لأبيك)) رواه ابن ماجه. فكيف بنا نسمع من كثير من الآباء يستدينون من أولادهم وبناتهم؟! وهل استدنت منهما في الصغر ليستدينا منك في الكبر؟! ألا فاعلموا أن أعظم النفقات أجرًا هي النفقة على الوالدين المحتاجين.

ومن المفاهيم الضائعة أن كثيرًا من الناس لا تجدهم يلتمسون الدعاء من الوالدين، وتجدهم يلتمسونه من غيرهما، وتراهم اتخذوا عادة سيئة يقولون: ادعُ لنا، يقولونها لكل أحد ولا يقولونها للوالدين اللذين كتب الله إجابة دعوتهما، قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم)) رواه أبو داود، فاغتنم دعواتهما المباركة، فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب، واحذروا من دعواتهما عليكم، وانظروا إلى ذلكم العابد الراهب جريج الذي كان يعبد الله ويصلي، فنادته أمه فقال: يا رب صلاتي أو أمي؟ فنادته ثلاثًا وهو لا يجيب، فدعت عليه قائلة: اللهم لا تمته حتى تبتليه بالمومسات. وكانت هنالك امرأة بغيّ، حملت من راعي غنم، فعندما سئلت عن أبي الغلام قالت: جريج، فهدم الناس صومعة جريج وأنكروا عليه، وهمّوا بعقوبته لولا أن أرجأهم فصلى ركعتين، ثم أقبل على الوليد قائلاً: من أبوك؟ فقال: الراعي.

الشاهد من هذه القصة ـ عباد الله ـ هو استجابة الله دعاء الوالدة على ولدها، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.

ومن المفاهيم الضائعة أنّك تجد الناس يحسنون صحبة الناس وعشرتهم ولا يحسنونها مع أشرف الناس وهم الوالدان، فتراه يضحك حتى يسقط أرضًا مع أناس لم يحسنوا إليه لا من قريب ولا من بعيد، حتى إذا دخل على والديه سكت، وربما أظهر الضجر أمامها.

ألا فاعلم أن الله سوف يحاسبك على تلكم اللحظة، ويسألك عن علمك فيم عملت به، علمك بحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال ثم من؟ قال: ((أبوك)).

ومن المفاهيم الضائعة بعد وفاة الوالدين الكريمين ـ أطال الله عمر والدينا ورحم الله موتاهم ـ حق الوالدين بعد رحيلهما من عالمنا، بعد معاناة شديدة في هذه الدنيا، وبعد سكرات شديدة على فراش الموت، تذكر ذلك المشهد كل يوم، تذكرهما وهما يعانيان الألم الرهيب والوجع العصيب، تذكرهما وهما على غفلتهما واقفين بين يدي الملك، ألا ترضى أن يكونا من أهل الجنة والرضوان، فمن أكرمه الله بوالديه فليقترب منهما كما يقترب من زوجته، من ولده، من صديقه، فهما في أمس الحاجة إليك.

ومن حُرِمَهُما وحرم فرصة برّهما لوفاتهما فليعلم أن هناك وجوهًا في برّهما وهما ميتان، فقد روى أبو داود عن أبي أسيد قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: ((نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)).

((الصلاة عليهما والاستغفار لهما)) مثل أن تدعو لهما في صلواتك وخلواتك ومناجاتك، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))، وفي سنن ابن ماجه: ((إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟! فيقال: باستغفار ولدك لك)).

((وإنفاذ عهدهما من بعدهما)) هو أن تنفذ وصاياهما وصدقاتهما وما عليهما من حقوق.

((وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)) هو صلة إخوانهما وأعمامهما وكل قريب لهما.

((وإكرام صديقهما)) حتى أصدقاء الوالدين إذا وصلهما المسلم لحق الأجر والديه، فها هو ابن عمر لقي رجلاً من الأعراب بطريق مكة، فسلّم عليه وحمله على حمارٍ كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال رجل لابن عمر: أصلحك الله، إنهم أعراب وهم يرضون باليسير! فقال: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب، وقد سمعت رسول الله يقول: ((إن أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودِّ أبيه)) رواه مسلم

0 التعليقات:

إرسال تعليق