عقوق الوالدين (1)

ملخص الخطبة

1- عقوق الوالدين أحد موبقات الذنوب. 2- الأحاديث المحذرة من العقوق. 3- تأكيد القرآن والسنة على فضل الوالدين. 4- فضل الوالد على ولده. 4- التأكيد على حق الوالدة وفضلها.


الخطبة الأولى

أما بعد: فلقد انتهينا من الحديث عن أكبر الكبائر على الإطلاق، وأعظم الذنوب في حق الله سبحانه، ألا وهو الشرك بالله، وسنرى معكم اليوم إن شاء الله الكبيرة الثانية التي لا يغفرها الله بمجرد الصلاة والصيام وغيرهما من الصالحات، وإنما يغفرها بالتوبة النصوح منها، والإقلاع عنها، والندم على اقترافها، هذه الكبيرة هي "عقوق الوالدين"، والأحاديث في بيان أنها كبيرة من الكبائر كثيرة وكثيرة جدًا، نذكر منها:

1- حديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)) رواه البخاري.

2- حديث أبي بكرة مرفوعًا: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور))، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه الشيخان.

3- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: ((الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس)) رواه البخاري.

4- حديث أنس قال: ذكر عند رسول الله الكبائر فقال: ((الشرك بالله وعقوق الوالدين)) رواه الشيخان.

5- حديث ابن عمر مرفوعًا: ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى)) رواه النسائي.

6- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمّه)) رواه مسلم.

والذي يتدبر القرآن حق التدبّر ويتأمل الأحاديث الصحيحة حق التأمل يعجب أشد العجب من تعظيم الله تعالى للوالدين ومن شدة تأكيده لبرهما والترهيب من عصيانهما.

قال تعالى: وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا [النساء:36]، وقال: وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، وقال: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23- 24].

فبر الوالدين من أعظم الأعمال، وعقوقهما من أبشع الذنوب والآثام، وتأكيدا لبيان منزلتهما نسوق إليكم هذه النقاط، علها تكون ذكرى للطائعين وتنبيهًا وموعظةً للغافلين.

أولاً: تأملوا جيدًا كيف قرن الله تعالى الأمر ببر الوالدين بالأمر بتوحيده وعبادته، فكأنه يعلمنا أن من تمام التوحيد طاعته فيما أمر، وأعظم أوامره بر الوالدين.

ثانيًا: قال تعالى: وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ [لقمان:14]، ولنا في هذه الآية وقفات:

الوقفة الأولى: أن بر الوالدين وصية الله على مر الدهور، وحق على المسلم أن يقوم بتنفيذ الوصية، فإذا كان واجبًا على المسلم تنفيذ وصية القريب الذي يموت، فكيف بوصية الله الحي الذي لا يموت؟!

الوقفة الثانية: أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوٰلِدَيْكَ انظروا كيف قرن شكره سبحانه بشكره، قال ابن عيينة رحمه الله: "من صلـى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين فقد شكر لهما"، وتصديق كلامه رحمه الله ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال سألت النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين))، قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، فأخبر رسول الله أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي عمود الإسلام، وقبل الجهاد الذي هو ذروة سنامه.

الوقفة الثالثة: قوله تعالى: إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ ستصير إليه ـ أيها العبد ـ وتحاسب عن معاملتك لهما، فإن كانت خيرا كنت من الفائزين، وإلا كنت من الهالكين الخاسرين، وكأنه تعالى يذكّرك بأن ما علي إلا أن تتذكر أنك سوف تحاسب عن معاملتك لأشرف مخلوقين تعيش معهما.

ثالثًا: ومن النقاط التي نذكر أنفسنا بها أنّ الله قد جعل رضاه ومحبّته موقوفين على رضا الوالدين، ولا يرضى الله عن عبدٍ لم يرض عنه والداه، فنستطيع أن نقول إن الذي يريد أن يدرك منزلته عند الله فلينظر إلى منزلته عند والديه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)).

رابعًا: مما يدل على شرفهما وعِظم قدرهما أن الله تعالى قد حكم في كتابه العزيز أن النفس بالنفس وأنه لا بد من القصاص، لكنه استثُني الوالد فقال رسول الله : ((لا يقاد الوالد بولده)) أي: لا يقتل الوالد إذا قتل ولده، وهذا لا يدّل إلا على مكانة الوالدين.

خامسًا: كل مخلوق يسدي إليك معروفًا ويتفضل عليك بجميل يمكنك أن تردّ له جميله وتقابل معروفه بمعروف آخر إلا الوالدين، فمهما عملت من عمل لتكافئ والديك به فإنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلا، ولن تتوصل له إلى حيلة، اللهم إلا أن يكون عبدًا من العبيد فتعتقه، فقد روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)).

ويؤكد ذلك ما رواه البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن سعيد بن أبى بردة قال: حدثني أبي أنه شهد ابنَ عمر ورجل يماني يطوف بالبيت حَمَل أمَّه وراء ظهره يقول:

إني لها بعيرُها المذلَّل إن أذعرت ركابها لم أذعر

ثم قال: يا ابن عمر، أترانى جزيتُها؟! قال: (لا ولا بزفرة واحدة).

فالله الله في الوالدين، فإنهما وصية الله لكم، وفي طاعتهما طاعة ربكم ومولاكم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: عباد الله، فإن بر الوالدين والإحسان إليهما أمر معلوم من الدين بالاضطرار، لا يحتاج إلى تدريس المدرسين أو تعليم المعلمين، ولكن الإنسان من طبيعته الغفلة والنسيان، والقلب تمرّ عليه سحب الذهول، فتحجب عنه أنوار الطاعة والإيمان، وما علينا إلا أن نذكركم بأحق الناس بالإحسان ألا وهما الوالدان.

الأم، تلكم المرأة الضعيفة التي لا تقوى على حماية نفسها من المكاره، تجدها أقوى الناس في مدة حملك، فهل تراها تلتذّ بذلك؟! لا والله، بل حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، حملتك وهنًا على وهن، ضعفًا على ضعف، ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف الوضع، وبعد ذلك تحمل أعباء تنوء بحملها الجبال، ولا يصبر عليها أقوى الرجال، تود لو تفديك بنفسها عوضًا من أن تسمعك تتأوّه، وتبقى كذلك لا تبالي إلا بحالك، حتى تراك رجلاً وتراكِ امرأةً أمامها، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

لأمّـك حق لو علمـت كثيـر كثيـرك يا هذا لديه يسيـر

فكم ليلةٍ بـاتت بثقلك تشتكي لهـا من آلامها أنة وزفيـر

وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غُصص منها الفؤاد يطير

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير

وتفديك ممّـا تشتكيه بنفسهـا ومن ثديها شربٌ لديك نمير

وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها حنانـا وإشفاقا وأنت صغير

فآها لذي عقـل ويتبـع الهوى وآها لأعمى القلب وهو بصير

فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعـو إليه فقيـر

نعم يا أخي الكريم، ويا أختي الكريمة، عليكم بالتماس دعائها، فإن دعوتها ليس بينها وبين الله حجاب.

أما الأب، فذلكم الرجل الذي لو وضع السيف بعنقه على أن تصاب بأذى لما تردد في أن يفديك بنفسه، ذلكم الرجل الذي لا يفرّط في رجولته، تراه يقبل الذل أحيانًا وأحيانًا في عمله، ليجلب لك قوت يومك، ويدخل عليك وأنت صغير فيسر عند رؤيتك وكأنه ما ذاق تعبًا وما لاقى ألمًا، ولا يزال يسعى ويكدّ ويلقى كل متاعب الدنيا لأجلك، حتى تصير رجلاً مستويًا على سوقه. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

فلا تضجر إن نصحك، فهو لا يريد لك إلا الكمال، ولا تتهمه بالغباء والجهل وقصور النظر فهو أدرى بمصلحتك منك مهما أوتيت علمًا وخبرة، وإياك إياك من أن ترفع صوتك بحضرته أو تتردد في طاعته، وللأسف كل هذا الإحسان ينساه الأولاد في لحظة، وصدق من قال:


غذوتُك مولـودًا ومنتُك يافعـا تعَلّ بما أجني عليك وتنهـل

إذا ليـلة ضافتك بالسقم لم أبِت لسقمك إلا ساهرًا أتملمـل

كأني أنـا المطروق دونك بالذي طرِقت به دوني فعيناي تهمل

تخـاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الوقت وقت مؤجّل

فلمـا بلغت السن والغايـة التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمّل

جعلـت جزائي غلظة وفظـاظة كأنـك أنت المنعـم المتفضل

فليتـك إذ لم ترعَ حق أبـوتي فعلت كما الجارُ المجاور يفعل

هذا هو حال الوالدين، كانا يحملانك وأنت صغير، ويعلّقان عليك الآمال والأحلام، لعلّه يكبر ويكشف به الله الغمة، فلا تنس ذلك أخي الكريم، وكن لهما عبدًا خادمًا، فإن لم تقدر على ذلك فأمسك عن أذيتهما، واعلم أن الجنة تحت أقدامهما، فقد أوصى النبي أحد الصحابة فقال: ((الزم رجلها فثَمّ الجنة)) رواه ابن ماجه.

هذا وللحديث بقية نرجئها إلى خطبة لاحقة، وبارك الله فيكم

0 التعليقات:

إرسال تعليق