خطبة عيد الفطر 1420هـ


أما بعد: فحياكم الله أيها الآباء والأمهات الفضلاء، وأيها الإخوة والأخوات النبلاء، طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله تعالى الذي جمعنا في هذا اليوم المبارك على طاعته أن يجمعنا مع الحبيب المصطفى في دار كرامته.


فهذا عيد جديد، صادفه عام ميلادي جديد، عيد أهلّ علينا، وعام اقترب إلينا، طوينا عاماً قبله مع ذكريات تثير الجراح والأفراح والآلام والآمال في آن واحد، شهر رمضان ودّعناه، وعام بكامله طويناه، عيد جديد أحييناه وشهر كريم دفناه، الأيام تجري، والأشهر تسرع وراءها، وتسحب معها السنين والأعمار، تُطوى حياة جيل بعد جيل، إلى أن نقف كموقفنا هذا بين يدي الجليل، فيسألنا عن الكثير والقليل، مصداقاً لقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7، 8]، واستمعوا إلى لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه قائلاً: (أي بني، إنك من يوم نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تذهب إليها أقرب من دار ترحل عنها).

وها هو العبد الصالح توبة بن الصمة، كان من أشد الناس محاسبة لنفسه، عندما بلغ الستين من عمره عدّ أيامه فوجدها تزيد على واحد وعشرين ألف يوم، ففزع وصرخ صرخة قائلاً: "يا ويلاه يا ويلاه، ألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب، فكيف وفي اليوم الواحد آلاف الذنوب؟!" ـ مرتين ـ.

والناس في هذا العيد ومع إقبال العام الجديد صنفان:

صنف يحاسب نفسه حساب الشريك الشحيح، ويسألها عن سبب فرحتها بهذا العيد، ويذكرها بأن العيد ليس بلبس الجديد وأكل الثريد، وإنما العيد هو لمن قام بطاعة رب العبيد. يحمد الله تعالى أنه انتصر على نفسه، واكتسب الأجر والثواب في شهر هو أعظم شهر عند الله، واغتنم الفرصة فيه فقدم خيرا. وحق له أن يفرح بعبادة ربه الواحد الأحد الذي ينعم عليه ليل نهار وصباح مساء.

وصنف ظفرت به نفسه وانتصرت عليه، فأمرته بالشهوات والنزوات، وألهته عن عبادة رب الأرض والسموات، فما أشد ألمه، وما أكبر ندمه، فلم الفرح وقد ذاق مر الهزيمة؟! ولم السرور وقد فاتته الفرصة العظيمة؟!

عام مضى، فأبعدنا من الدنيا عاماً، وقربنا من الآخرة عاماً، فأحببت أن نقف اليوم وقفة صدق نحاسب فيها أنفسنا قبل أن نحاسب أمام الذي لا تخفى عليه خافية، قال عمر بن الخطاب: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتزينوا للعرض الأكبر، يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا).

حاسبوا أنفسكم اليوم، فإن اليوم عمل، وغدا حساب ولا عمل، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

خاطب نفسك وتحدث معها، وذكرها بالله، فالمؤمن الصادق هو من يحاسب نفسه على كل شيء، إن ارتطم رأسه بالباب سأل نفسه: لماذا؟ لعله ذنب عجل الله عقوبته. وإن رأى أولاده في انحلال وانحراف اتهم نفسه قبل كل شيء.

يا نفس إن العمر هو رأس مالي، فإن فني العمر فني رأس المال.

يا نفس لقد أمهلني الله تعالى إلى هذا اليوم الذي يفرح له الناس، فلو توفيت قبله لتمنيت الرجوع لتعملي صالحاً، فاعملي صالحاً ما دمت على الأرض، قبل أن تدفني تحتها وتصرخين قائلة: رَبّ ٱرْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100]، فيأتيه الجواب كالصفعة: كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100]، كلمة لا وزن لها ولا عبرة لها.

ويحك يا نفس إن كنت قد تجرأت على الله، وعصيته وأنت تظنين أنه لا يراك فما أكفرك.

ويحك يا نفس إن كنت قد تجرأت على الله وعصيته وأنت تظنين أنه يراك فما أقل حياءك من الله.

ويحك يا نفس أجعلت الله أهون الناظرين إليك.

وإذا خلـوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان

فاستح من نظر الإله وقل لها: إن الذي خلق الظلام يراني

إذا خلوت الدهر يوماً فلا تقل: خلوت ولكن قل: عليّ رقيب

ولا تحسبن الله يغفـل سـاعة ولا أن مـا تخفيـه عنه يغيب

لهونا لعمرو الله حتى تتابعت ذنـوب على آثارهن ذنوب

فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويـأذن لنا في توبـة فنتوب

ويحك يا نفس هل وحدت الله المجيد؟ هل أخلصت له التوحيد؟ هل توكلت عليه حق التوكل؟ هل استعنت بالله وحده في كل شيء؟

يا نفس هل حافظت على الصلوات كما أمر رب الأرض والسموات؟

يا نفس هل حافظت على طاعة الرحمن في هذا الشهر شهر رمضان؟

يا نفس هل أديت زكاة مالك؟ هل تتحدثين شوقاً إلى زيارة بيت الله الغفور كما تتحدثين لهفاً عن زيارة بلاد الكفر والفجور؟

يا نفس هل قمت بواجب الوالدين كما أمر ببرّهما رب المشرقين والمغربين؟

ويحك يا نفس هل صدقت الوعد ووفيت العهد؟

ويحك يا نفس هل حزنت على مُصاب إخوانك في بقاع الأرض، وما يجتاحها من دمار على أيدي الملاحدة والكفار؟

ويحك يا نفس هل تلوت كتاب الله وتلذذت به كما يتلذذ أصحاب الغناء بغنائهم؟

ويحك يا نفس كيف يطيب لك سماع مزمار الشيطان وتغفلين عن سماع القرآن؟

النفـس تنشط للقبيـح وكم تنـام عـن الحسـن

يا نفـس ويحك ما الـذي يرضيك في دنيـا العفــن

أولى بنا سكب الدمـوع وأن نتحـلى بالـحــزن

أولـى بنا أن نرعــوي أولـى بنا لُبس الكفــن

أولى بنـا قتـل الهـوى والصبر فـي هذا الزمـن

فأمامنـا سفـر بعيــد بعـده يأتـي السّكــن

إمـا إلى نـار الجحيـم أو الجنـانٍ جنان عــدن

ويحك يا نفس إلى متى تعصين، وعلى الله تتجرئين؟ ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب!! وكأنك لا تعلمين ما عند الله من العذاب!!

أما تخافين من الموت؟! أما تخافين من النار والأغلال والأهوال؟! أما تخافين من أن تحجبي عن النظر إلى الواحد الكبير المتعال؟!

يا نفس قد أزف الرحيـل وأظلـه الخطب الجليـل

فتأهـبي لله يا نفــس لا يلعب بك الأمـل الطويل

فلتنزلـن بمنـزل ينسـى الـخليـل به الخـليـل

قُرِن الفناء بنـا جميـعـاً فلا يبقى العزيز ولا الذليل

حاسبوا أنفسكم ـ عباد الله ـ من الآن، فإنه قد يخطئ المحاسبون في الدنيا، ولكن الله لا يغيب عنه شيء، لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى [طه:52].

وانظروا إلى من هم أفضل منا مرتبة، وأكثر منا عبادة، كيف كانوا يخافون يوم الحساب.

فها هو رسول الله يتلو عليه عبد الله بن مسعود قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً [النساء:41، 42]، فبكى رسول الله لهول المطلع يوم البعث.

وها هو الرجل الصالح يزيد الرّقاشي يبكي يوماً قائلاً: "ويحك يا يزيد، من الذي يصلّي عنك بعد الموت؟ من الذي يصوم عنك بعد الموت؟ من يعبد عنك ربك بعد الموت؟ أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم؟! كيف حاله من الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وينتظره بعد كل ذلك الفزع الأكبر؟!" ثم غشي عليه.

وها هو الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يبكي فتبكي زوجته فاطمة لبكائه، ويبكي الخدم لبكائهما، وكأن في البيت جنازة، فقالت فاطمة: يا أمير المؤمنين، بأبي أنت وأمي، ما الذي أبكاك؟ قال: (يا فاطمة ذكرت منصرف القوم بين يدي الله تعالى، فريق في الجنة وفريق في السعير، ولا أدري من أي الفريقين أنا).

وها هو محمد بن المنكدر يصلي ليلاً ويبكي بكاءً شديداً، حتى لا يقوى على الكلام، فخاف عليه أهله، وظنوا أنه هالك لا محالة، فهرعوا إلى صديقه أبي حازم الأعرج لعله يواسيه ويخفف عنه، فلما دخل عليه قال: ما بك يا أخي؟ ما الذي فعل بك هذا؟ فقال: "يا أبا حازم، مرت بي آية في كتاب الله فعلت بي ما ترى"، قال: ما هي؟ قال: "قوله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، يظن الإنسان نفسه ناجياً وهو هالك"، فجلس أبو حازم يبكي لبكاء صاحبه.

فحان الوقت ـ عباد الله ـ لأن نعود إلى الله ونجدد حياتنا معه تعالى، ونعاهده على البقاء تحت طاعته ما استطعنا، والله يقبل التوبة عن عباده، ويبدل الله سيئاتهم حسنات.

فقد تصبح الدنيا لإبليس شيعـة ونحـن لغير الله لا نتشيـع

فأيـن إذًا عهد قطعنـاه لربنـا بأنا له دون البرية خُضَّـع؟!

والحمد لله رب العالمين.

0 التعليقات:

إرسال تعليق