فَضْلُ صَوْمِ شهر محرّم ويوم عَاشُورَاء


الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فإنّنا نستغلّ حديث النّاس هذه الأيّام، عن هجرة سيّد الأنام، عليه الصّلاة والسّلام، لنذكّر أنفسنا والمسلمين عامّة بأهمّ مقاصد الهجرة وهو: هجر ما نهى الله عنه، كما في الحديث الّذي رواه البخاري عن

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضِي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ )).

وبقدر ما تعظُم الفتن وتقوى المحن، بقدر ما يعظم هذا الفضل، لذلك روى مسلم عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))..

قال الإمام النّووي رحمه الله:

" المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أنّ النّاس يغفُلون عنها, ويشتغلون عنها، ولا يتفرّغ لها إلاّ أفراد " اهـ..

وأيّامنا هذه أيّام هرج وفتن، وأيّام هِجرة وصبر على المحن .. ومن أجلّ العبادات الّتي يمكن أن تساوي مقام الهجرة عبادة الصّيام ..

لماذا أقول: إنّه قد يساوي فضل الهجرة في سبيل الله ؟

تأمّل أخي - الكريم – ما رواه النّسائي بسند صحيح عَنْ أَبِي فَاطِمَةَ اللَّيْثِي رضِي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ أَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ وَأَعْمَلُهُ ! قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( عَلَيْكَ بِالْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا )).

ثم تأمل كذلك ما رواه النّسائي وأحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضِي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْتُ: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ ؟ قَالَ:

(( عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ )).

زاد الإمام أحمد: " فَمَا رُئِيَ أَبُو أُمَامَةَ وَلَا امْرَأَتُهُ وَلَا خَادِمُهُ إِلَّا صُيَّامًا قَالَ فَكَانَ إِذَا رُئِيَ فِي دَارِهِمْ دُخَانٌ بِالنَّهَارِ قِيلَ اعْتَرَاهُمْ ضَيْفٌ نَزَلَ بِهِمْ نَازِلٌ ".

الشّاهد: أنّك تراه صلّى الله عليه وسلّم يخبر عن فضلهما، ويحثّ عليهما بعبارة واحدة: عليك بالهجرة وعليك بالصّوم فإنّه لا مثل لهما ..

فما على المسلم إلاّ الحرص على اغتنام هذا الفضل العظيم، والثّواب العميم، بصوم أيّام من هذا الشّهر المعظّم، شهر الله المحرّم:

فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضِي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ ))..

وإن فاتك شيء فلا يفوتنّك صوم عاشوراء، وذلك لفضله، وعِظم أجره، إليك ما يدلّ على تعظيمه:

1- إنّه يوم عرف عرب الجاهليّة له قدره، فكيف بالمسلم ؟

روى البخاري ومسلم أيضا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّه ِ صلّى الله عليه وسلّم بِصِيَامِهِ، حَتَّى فُرِضَ رَمَضَانُ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى

الله عليه وسلّم: (( مَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ )).

وفي رواية لهما أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ،
فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ

تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ
".

2- وإنّه يوم نجّى الله فيه أولياءه حتّى عظّمه بنو إسرائيل:

روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:" قَدِمَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (( مَا هَذَا ؟ )) قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ،
هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ

بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: (( فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ )) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ".

3- إنّه يوم كان فرضا صيامه:

روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ )).

وفي صحيح البخاري ومسلم عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضِي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: (( إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ )).

وفي راية للنّسائي وابن ماجه وأحمد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَيْفِيٍّ رضِي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ عَاشُورَاءَ: (( أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَكَلَ الْيَوْمَ ؟ )) فَقَالُوا:" مِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَصُمْ

" قَالَ: (( فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَابْعَثُوا إِلَى أَهْلِ الْعَرُوضِ فَلْيُتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ )).

4- إنّه يوم كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتحرّى صيامه أكثر من غيره:

روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ ".

5-إنّه يوم جعل الله صيامه كفّارة لسنة مضت:

فقد روى مسلم عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ: أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَه،ُ
وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ

الَّتِي قَبْلَهُ
)).

6- وتعظيما له كان الصّحابة يصوّمونه أطفالهم:

ففي الصّحيحين عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ رضي الله عنها قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: (( مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ )) قَالَتْ:

" فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ ".

( فصل في صيام تاسع محرّم )


فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم آخِرَ عهده لا يدع شيئا إلاّ وخالف فيه أهل الكتاب والمشركين، لذلك أراد أن لا يتشبّه بهم في هذه العبادة العظيمة، وأن لا يَعلُو الإسلام شيء، فاستحبّ لأمّته أن تصوم

اليوم التّاسع زيادة على اليوم العاشر من محرّم، ويدلّ على ذلك حديثان:


1- ما رواه مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضِي الله عنه قَالَ:" حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! فَقَالَ

رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ )).

2-ما رواه مسلم أيضا عَنْ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ، فَقُلْتُ لَهُ:" أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ ؟" فَقَالَ: "
إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ

وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا
" قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّه ِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُهُ ؟ قَالَ:" نَعَمْ ".

وهل يسنّ صيام اليوم الحادي عشر؟

جرت عادة المصنّفين عند التحدّث عن صوم يوم عاشوراء أن يذكروا له ثلاث مراتب، فقالوا:

إنّ المرتبة الأولى: صوم ثلاثة أيّام: التّاسع، والعاشر، والحادي عشر.

والمرتبة الثّانية: صوم التّاسع والعاشر.

والمرتبة الثّالثة: صوم العاشر وحده.

والحقّ – إن شاء الله -، أنّه لا دليل على هذا، وإنّما الثّابت هو المرتبة الثّانية والثّالثة فقط، و(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ )..

لذلك نرى بعضهم يقول: إنّ من فاته صوم التّاسع فليصم الحادي عشر، وليس على ذلك دليل، إلاّ ما رواه الإمام أحمد: قَالَ هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا )).

وهذا الحديث ضعيف كما في "ذخيرة الحفّاظ " للقيسراني (3/3420)، و" ضعيف الجامع " للألباني (3506)].

والله أعلم

0 التعليقات:

إرسال تعليق