شـرح كتـاب الحـجّ (55)

تـابع: البـاب الخامـس عـشـر:


15- ( التّرغيب في سُكنى المدينة إلى الممات، وما جاء في فضلها، وفضل أُحُدٍ، ووادي العقيق ).



فقد ورد في فضل المدينة أحاديث كثيرة، لذلك اهتمّ بجمعها المؤلّفون، وأفردها بالتّصنيف المصنّفون، فمنهم من جعل هذه الفضائل في باب مستقلّ من مصنّفاته،

كالصّحيحين، والسنن، والمسانيد، والمعاجم، والطّبقات، وكتب التّاريخ الإسلامية، وغيرها.

واهتمّ بعضهم بهذا الباب، فصنّفوا فيه كتباً مستقلة، منها:


- " فضائل المدينة المنوّرة "، لأبي سعيد المفضّل بن محمّد الجندي (تـ: 308هـ).


- " فضائل المدينة المنوّرة "، لأبي محمّد القاسم بن علي بن الحسن بن عساكر (تـ: 600هـ).


- " الدّلائل المبينة في فضائل المدينة "، لأبي الحسين يحيى بن عليّ العطّار (تـ: 662هـ).


- " الأربعون حديثاً في فضائل المدينة "، لمحمد بن أحمد الشّاذلي جمعها سنة 1170هـ.


- " فضائل المدينة المنوّرة "، للإمام محمّد بن يوسف االصالحي الدمشقي (تـ: 942هـ).


- " فضائل المدينة المنوّرة " /3 أجزاء، للدّكتور خليل إبراهيم ملا خاطر.


- " فضائل سيّدة البلدان "، لعبد الفتاح جميل بري.


- " الأحاديث الواردة في فضائل المدينة المنوّرة "، للدّكتور صالح بن حامد الرفاعي.


أمّا المصنّف رحمه الله: فقد ساق اثني عشر حديثا في فضل سكنى المدينة النبويّة والموت بها.


وأربعة عشر حديثا في الدّلالة على بركتها، وبركة بعض بقاعها.


ثمّ عقد بابا في التّرهيب من ترويع أهلها.


فضـائـل المدينـة النّبويّـة



1- الفضل الأوّل: فيظهر لك ذلك الفضل من اسمها.



- فعند إطلاق اسم ( المدينـة )، لم يصدُق إلاّ عليها، وكأنّه لا اعتبار بغيرها، والخير مجموع في خيرها.


- ثمّ انظر إلى نسبتها، وتأمّل في شهرتها: ( النّبويّـة ) .. فقد انتسبت إلى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، إمام الأنبياء وسيّد الأتقياء.

- وقد سمّاها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ( طابة ) و( طيبة ) و( المدينة )، إرغاما لأنوف المعاندين، وإلجاما لألسنة المنافقين، الّذين كانوا يسمّونها (يثرب).


روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي

النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ
)).


واستنبط العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة ( يثرب )، قالوا: وما وقع في القرآن من تسميتها بذلك فإنّما هو حكاية عن قول غير المؤمنين.


وسبب هذه الكراهة: أنّ ( يثرب ) مأخوذ من " التثريب "، وهو التّوبيخ والملامة، كقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السّلام:{قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ

اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
} [يوسف:92]، والثّرب أيضا هو الفساد، وكلاهما مستقبح، وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح.


وانظر إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: ( أمرت بقرية ) أي: أمرني ربّي بالهجرة إليها، أو سكناها.


وقوله: ( تأكل القرى ) أي تغلبهم، وكلّ بلدة تُفتح منها. قال ابن وهب: قلت لمالك ما تأكل القرى ؟ قال: تفتح القرى.

وقال ابن المنير:" يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبةَ فضلها على فضل غيرها، ومعناه: أنّ الفضائل تذوب في جنب عظيم فضلها، حتىّ تكاد تكون عدما،

ولكنّ مكّة أمّ القرى، ولا شكّ أنّ حقّ الأمومة أعظم ".


( تنبيه ) وليس من أسمائها " المدينة المنوّرة "، وإنّ إطلاق هذا الاسم عليها صحيح باعتبار، وضعيف باعتبار آخر:


أ‌) أمّا وجه صحّته:


فلأنّها تنوّرت بوجود النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيها أثناء حياته، روى التّرمذي وابن ماجه والإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:" لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ

الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ
صلّى الله عليه وسلّم الْمَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ".


ب‌) أمّا وجه ضعفه، فهو اعتقاد أنّها لا تزال منوّرة بدفنه فيها، وهو ما نشره الصّوفيّة عبر العصور، وهو أمر لا دليل عليه.


وإنّ قول أنس رضي الله عنه في الحديث السّابق: ( فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ) يردّه.

2- الفضل الثّاني: أنّ من مات بها حلّت له شفاعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.



قد ذكر المصنّف رحمه الله أحاديث كثيرة في هذا المعنى، منها حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ، وسعد بن أبي وقّاص، وأبي أيّوبَ الأنصاريّ، وابن عمر،

والصّميتة، وسبيعة الأسلميّة، وامرأة من ثقيف رضي الله عنهم أجمعين.


ونلفت انتباه القارئ أنّ المصنّف كثيرا ما يذكر الأحاديث ذات المعنى الواحد متباعدةً، وحقّها أن توضع متتابعة.

الحـديـثان: الأوّل والثـّاني


1186-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:


(( لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ شَهِيدًا )).


[رواه مسلم والترمذي وغيرهما].


1187-وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:


(( لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا[فَيَمُوتَ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا كَانَ مُسْلِمًا )).


[رواه مسلم].


الشّـرح:


- قوله: ( لأواء المدينة ): قال المصنّف رحمه الله:" ( اللّأواء )- مهموزا ممدودا -: هي شدّة الضّيق ". وقال النّوويّ رحمه الله:" قال أهل اللّغة: اللّأواء

– بالمدّ -: الشدّة والجوع ".


- قوله: ( شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ شَهِيدًا ): وهنا نقف عند فائدتين:


أ‌) الفائدة الأولى: ما معنى ( أو ) هنا ؟

قال بعض أهل العلم إنّ ( أو ) هنا شكّ من الرّاوي.


وقد ردّه بعضهم بأنّ جميع من ذكرنا من الصّحابة ممّن رووا الحديث رووه بـ( أو )، فيبعُد جدّا أن يكون شكّا من الرّاوي.


وذكر القاضي عياض – كما في شرح النّووي- أنّها للتّقسيم، بمعنى:


أنّه صلّى الله عليه وسلّم يكون شهيدا لبعض أهل المدينة، وشفيعا لبقيّتهم.


أو شفيعا للعاصين، وشهيدا للمطيعين.


أو شهيدا لمن مات في حياته، وشفيعا لمن مات بعده، وغير ذلك من وجوه التّأويل.


ب‌) الفائدة الثّانية: لما خُصّ من مات بالمدينة بالشّفاعة ؟


الجواب: هذه شفاعة أخرى غير الشّفاعة العامّة الّتي هي لإخراج أمّته من النّار، ومعافاة بعضهم منها بشفاعته صلّى الله عليه وسلّم، وإنّما هي خاصّة لأهل

المدينة بزيادة الدّرجات، أو تخفيف الحساب، أو بما شاء الله من ذلك من أنواع الإكرام والتفضّل. ونظيره قوله
صلّى الله عليه وسلّمفي شهداء أُحُدٍ: (( أَنَا شَهِيدٌ

عَلَى هَؤُلاَءِ
))، مع أنّه يشهد لشهداء أمّته جميعا، ولكنّهم خُصّوا بمزيّة زائدة، والله أعلم.


- الشّاهد من هذه الأحاديث:


كما يرغّب الله في سكْنى المدينة حال الحياة، فإنّه يرغّب في سكناها بعد الممات، وليس ذلك إلاّ لما فيها من أهل الخير الّذين يُرجى منهم قبول دعائهم.


روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ ! انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ النَّاسِ ! قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدْ اجْتَمَعُوا لَهُ،

فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَخْرِجُوهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ

أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ
)).


فعلى المؤمن أن يحرِص على أن يعيش ويموت في بيئة التّوحيد والسنّة، فما أفظع أن يصلّي عليك من ضعف إيمانه، وقلّ يقينه !


فإذا صلّى عليك ملأٌ في أيّ بقعة من الأرض وهم لا يُشركون بالله شيئا وجبت لك شفاعتهم بإذن الله، فكيف لو انضمّ إلى ذلك موتُك بالمدينة النبويّة، ويشفع فيك

خير البريّة صلّى الله عليه وسلّم.


لذلك تمنّى الخليفة عمر رضي الله عنه الموت بها، فقد روى البخاري عَنْ أَسْلَمَ مولى عمر بنِ الخطّاب أنّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: (( اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي

سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ
صلّى الله عليه وسلّم)).


آمين.

0 التعليقات:

إرسال تعليق