ترغيب أهل الإيمان في تلاوة وتعلّم القرآن

ترغيب أهل الإيمان في تلاوة وتعلّم القرآن (4)
روى مسلم في " صحيحه " عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ:
(( أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى ( بُطْحَانَ ) أَوْ إِلَى ( الْعَقِيقِ )، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ، فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ ؟ )). فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كُلُّنَا يُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ:
(( أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ -أَوْ فَيَقْرَأُ- آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ )).
ولنا وقفتان مع هذا الحديث:

الوقفة الأولى: شرح ألفاظ الحديث:
- (ونحن في الصفّة): أهل الصفة هم أضياف الإسلام من فقراء المهاجرين، كانوا يأوون إلى موضع مظلّل في مؤخّر المسجد، وعدّهم أبو نعيم في " الحلية " أكثر من مائة.
- ( أن يغدو ): أي يذهب في الغدوة، وهي أوّل النّهار.
- ( إلى بطحان ): -بضمّ الباء وسكون الطاء - اسم واد بالمدينة، سمّي بذلك لسعته وانبساطه من البطح وهو البسط، وضبطه ابن الأثير بفتح الباء أيضا.
- ( أو العقيق ): هو اسم وادٍ أيضا، وأراد به العقيق الأصغر، وهو على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة.
وخصّهما بالذّكر لأنّهما أقرب المواضع الّتي يقام فيها أسواق الإبل إلى المدينة، والظّاهر أنّ ( أو ) للتّنويع، لكن جاء في رواية: ( أو قال: إلى العقيق )، فدلّ على أنّه شكٌّ من الرّاوي.
- ( كَوْمَاوَيْن ): تثنية كوماء، قلبت الهمزة واوا، وأصل الكوم العلوّ، أي فيحصل ناقتين عظيمتي السّنام، وهي من خيار مال العرب. وفي رواية أبي داود: ( زهراوين ): أي سمينتين مائلتين إلى البياض من كثرة السّمن.
- ( بغير إثم ): كسرقة، أو غصب.
- ( ولا قطع رحم ): أي: بغير ما يوجب قطع الرّحم، فقد يسعى الرّجل في تحصيل الرّزق والمال ويضيّع عياله، وهذا تخصيص بعد تعميم، لأنّ قطع الرّحم من الإثم.
الوقفة الثّانية: إنّ الاشتغال بالقرآن سبب من أسباب القناعة وغِنى النّفس.
فمعنى الوعد في هذا الحديث أنّ الآيتين خيرٌ له من ناقتين، وثلاث من الآيات خير له من ثلاث من الإبل، وأربع خير له من أربع من الإبل.
فانظر كيف أصبح أشرف أموال العرب رخيصا أمام أحرف القرآن والعلم !
ونظيره قول الله تعالى:{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }، [الكهف]، وقد جاء في المسند عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ )) قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ: (( التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ))
وروى التّرمذي وغيره بسند صحيح عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ:{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ } قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أُنْزِلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ المَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ ؟ فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ ))
بل إنّ ذكر الله –وعلى رأسه كلام الله- سبب من أسباب الغنى في الجنّة .. ففي سنن التّرمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَقِيتُ إِبْراَهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ ! أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ )).
والحاصل أنّه صلّى الله عليه وسلّم أراد ترغيبهم في الباقيات، وتزهيدهم عن الفانيات، فذكره هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى الأفهام، وإلاّ فجميع الدّنيا أحقر من أن يقابل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى أو بثوابها من الدّرجات العلى

0 التعليقات:

إرسال تعليق