الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
( حرف الباء)
( بَهْ بَهْ )
( بَهْ بَهْ )
بَهْ بَهْ: لطالما سمعتَ هاتين اللّفظتين من أفواه الشّيوخ والأولاد، وخاصّة على ألسنة من يتسمّون بـ( اوْلاَدْ البْلاَدْ ) ..
فما شأن هذا الاستعمال ؟ أهو فصيح يستحقّ الإجلال، أم أنّه دخيل يحكم عليه بالإهمال ؟
فاعلم- وفّقني الله وإيّاك - أنّ أصل هذه الكلمة ( بَخْ بَخْ )، ومنه قول العرب عن الأشياء المستعظمة: ( مُبَخْبَخَة ) أي يقال فيها (بخ بخ) [انظر "اللّسان" (1/253) تحت
مادّة ج ب ب، وخ ب ب، وب خ خ].
وتقول العرب: بخبخ الرّجل إذا قال بخْ بخْ، و( رجل بخٌّ ) أي سريّ وشريف ومعظّم، وقال ابن الأنباري: بخ بخ معناه تعظيم الأمر، وقال الأزهريّ: هي كقولك عجبا.
ومن اللّغات فيها عن العرب قولهم: بَهْ بَهْ.
جاء في صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه: مَا أَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ أَنَسٌ: قُلْتُ: فَإِنَّمَا أَسْأَلُكَ مَا أَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ ؟
فَقَالَ: بَهْ بَهْ ! إِنَّكَ لَضَخْمٌ..".
قال ابن السِّكِّيت : هي لتفخيم الأمر بمعنى ( بَخٍ بَخٍ ) ..
ولنا مع هذه اللّفظة وقفات:
الأولى: تبقى مشكلتنا تفخيم ما لا يستحقّ التّفخيم، ولعلّ عذرهم في ذلك أنّ الكلمة للتّعظيم، ولا يخفى على أهل النُّهى والبصائر، أنّ مناسبة الألفاظ للمعاني لها أشباه ونظائر.
الثّانية: منهم مَن يكرّر اللّفظة أكثر من مرّتين، قتسمعه يقول: بهْ بهْ بهْ بهْ... متعجّبا في انبهار، ولولا قطع النّفس لظلّ يكرّرها طوال النّهار .. فأقول له راحما مشفِقاً، حتّى
لا يموت بين أيدينا خَنِقًا:
إنّ من أساليب العرب إطلاقَ لفظ المثنّى وإرادة الجمع، لأنّ " التّثنية " في اللّغة معناها التّكرار وثنيُ الشّيء على الآخر، وقولهم: ثنيت الثّوب أعمّ من أن يكون مرّتين فقط،
فحينها يكون المراد من التّثنية ( جنس التّعديد ) من غير اقتصار على اثنين فقط، كقولهم: قلت له مرّة بعد مرّة، أي: مرّات كثيرة، وتقول: هو يقول كذا ويقول كذا، وإن كان قد
قال مرّات.
ومنه قوله تعالى:{ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك:4] والمراد: كرّات.
ومنه-على الأصحّ- قوله تعالى:{ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } [البقرة: من الآية 90] أي: بغضب على غضب على غضب على آخر [انظر " تفسير القرطبيّ "(2/252)،
وكذا تفسير الطّاهر بن عاشور].
ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي ))، قال ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى "(14/470):
" لم يرد: أنّ هذا قاله مرّتين فقط كما يظنّه بعض الناس الغالطين، بل يريد: أنّه جعل يثنّي هذا القول ويردّده ويكرّره كما كان يثنّي لفظ التّسبيح، وقد قال حذيفة رضي الله عنه
في الحديث الصّحيح الّذي رواه مسلم: ( إِنَّهُ رَكَعَ نَحْواًً مِنْ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ ) وذكر أنّه سجد نحوا من قيامه يقول في سجوده:
ربِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي ))، وقد صرّح في الحديث الصّحيح ( أنّه أطال الرّكوع والسّجود بقدر البقرة والنساء وآل عمران ) فإنّه قام بهذه السّور كلّها، وذكر أنّه كان يقول:
(( سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّي العَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى، سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى ))، فعلم أنّه أراد بتثنية اللّفظ: جنس التّعداد والتّكرار لا الاقتصار على مرّتين " اهـ.
فإذا عُلِم ذلك، فلْيقتَصِر المتعجّب بالبخبخة والبهبهة على التّثنية، فإنّ ذلك أصون للسانه وأبقى لأنفاسه.
الثّالثة: تُعرب كلمة ( بَخْ ) أو ( بَهْ ) اسم فعل مضارع بمعنى أستعظم والفاعل مستتر تقدير أنا.
الرّابعة: إذا دخل التّنوين هذه الكلمة وقيل ( بَخٍ ) أو ( بَهٍ ) فإنّ ذلك للتّنكير، والمراد من التّنكير هنا زيادة التّعظيم لا الجهل بالشّيء وعدم تعيّنه، فالنّحاة عندما سمّوا بعض
أنواع التّنوين بـ( تنوين التّنكير ) فهذه التّسمية باعتبار اللّفظ، وإلاّ فإنّه لا بدّ من الوقوف دائما أمام معاني التّنكير نفسِه.
والله أعلم وأعزّ وأكرم.
( بْـنِـيـنْ )
بْـنِـيـنْ: معناها في استعمالنا ( طيّب )، وأطيب منه موافقة استعمالنا لاستعمال العرب، فقد قال ابن منظور رحمه الله:
" البَنَّة: الرّيح الطيِّبة كرائحة التُّفّاح ونحوها، وجمعُها ( بِنانٌ ) تقول: أَجِدُ لهذا الثوب بَنَّةً طيِّبة من عَرْف تفاح أَو سَفَرْجَل ".
هذا هو الأكثر، لكن قد تطلق على الرّائحة المكروهة كما قال الأصمعيّ، وقال الجوهريّ: " البَنَّةُ: الرائحة كريهةً كانت أَو طيبةً ".
والله أعلم
0 التعليقات:
إرسال تعليق